فصل: الفصل الأول: في الألفاظ التي تجري في الوقف وما يتم به الوقف وما لا يتم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحيط البرهاني في الفقه النعماني



.كتاب الوقف:

هذا الكتاب يشتمل على ستة وعشرين فصلًا:
1- في الألفاظ التي تجري في الوقف، وما يتم به الوقف وما لا يتم.
2- فيما يتعلق بجواز الوقف، وصحته، وشرائط صحته.
3- في بيان ما يجوز من الأوقاف وما لا يجوز وهو أنواع: منها في تعليق بالشروط، ومنها في أوقاف المنقول، ومنها فيما يدخل في الوقف من غير ذكر؛ ومنها في الأوقاف المضافة؛ ومنها وقف المحجور.
4- فيما يتعلق بالشروط في الوقف وهو أنواع.
5- في الإقرار بالوقف.
6- في الولاية في الوقف.
7- في تصرف القيم في الأوقاف وهو نوعان: أحدهما فيما يرجع إلى عمارة الوقف، والآخر فيما يرجع إلى العقود.
8- في الوقف على نفسه وما يتصل به.
9- في الوقف على ولده وولد ولده وبنته ونسله، وما يتصل بذلك.
10- في الوقف على فقراء قرابته.
11- في الرجل يقف أرضه على قرابته فيجيء رجل فيدعي أنه من قرابته، وفيه الوقف على أقرب الناس منه أو إليه.
12- في الوقف على أهل البيت والآل، والجنس والعصب والجيران، وأشباه ذلك.
13- في الرجل يقف على الفقراء فيحتاج أحد من ولده أو يحتاج هو بنفسه.
14- في الوقف على الموالي والمدبرات وأمهات الأولاد والمماليك.
15- في وقف المريض.
16- في الرجل يقف أرضه على وجوه سماها كيف يقسم الغلة.
17- في الرجل يقف على قوم فلا يقبلون أو يقبل بعضهم دون بعض، أو يكون بعضهم حيًا وبعضهم ميتًا.
18- في الرجل يقف على جماعة ثم يستثني بعضهم بصفة خاصة، وفي الرجل يقف على جماعة موصوفين بصفة فتزول تلك الصفة عن كلهم أو عن بعضهم.
19- في المسائل التي تتعلق بالصك وما فيه.
20- في المسائل المتعلقة بالدعاوي والخصومات والشهادات في باب الوقف وهو أنواع منها، في المسائل العائدة إلى الشهادة في الوقف.
21- في المساجد، وهو أنواع.
22- في المسائل العائدة إلى الرباطات والمقابر والخانات والحياض والطرق والسقايات.
23- في المسائل العائدة إلى الأشجار التي في المقابر وفي أرض الوقف وغير ذلك.
24- في المسائل الأوقاف التي يستغنى عنها وما يتصل به من صرف غلة الأوقاف إلى وجوه أخر.
25- في وقف الكفار.
26- في المتفرقات.

.الفصل الأول: في الألفاظ التي تجري في الوقف وما يتم به الوقف وما لا يتم:

إذا قال: أرضي هذه صدقة محررة مؤبدة حال حياتي وبعد وفاتي، أو قال: أرضي هذه صدقة مؤبدة في حال حياتي وبعد وفاتي، أو قال: أرضي هذه صدقة محبوسة مؤبدة أو حبسة مؤبدة حال حياتي وبعد وفاتي، يصير وقفًا جائزًا لازمًا على الفقراء عند الكل، ولو لم يقل حال حياتي وبعد وفاتي، فالمسألة على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبه على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله.
ولو قال: أرضي هذه صدقة محبوسة، أو قال: حبسته ولم يقل: مؤبدة فإنه يصير وقفًا، في قول عامة من يجيز الوقف، وقال الخصاف وأهل البصرة بأنه: لا يصير وقفًا، ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على المساكين يصير وقفًا بالإجماع، وذهبوا في ذلك إلى أن جواز الوقف معلق بالتأبيد لما نبين بعد هذا إن شاء الله، وما يكون معلقًا بالتأبيد لا يكون إلا بذكر التأبيد نصًا وإنما جاز بذكر المساكين ولم ينص على التأبيد؛ لأن ذكر المساكين ذكر التأبيد؛ لأنهم لا يقطعون أبدًا وجه قول العائد أن التأييد كما يثبت بذكر الصدقة؛ لأن الصدقة تثبت مؤبدة؛ لأنها لا يحتمل القسم، ولو قال: أرضي هذه موقوفة، أو قال: داري هذه موقوفة أو قال: أرضي هذه، أو قال: داري هذه، فعلى قول أبي يوسف يكون وقفًا، وقال محمد وهلال لا يكون وقفًا، وكذلك على قول الخصاف وأهل البصرة لا يكون وقفًا؛ لأنه لما لم يصير وقفًا في المسألة الأولى عندهم وقد جمع بين الصدقة والموقوفة؛ فلأن لا يصير وقفًا هنا كان أولى.
وجه قول محمد أن قوله: وقفت أرضي، يحتمل وقفتها على الفقراء فيكون وقفًا تامًا، ويحتمل وقفتها على الأغنياء، فلا يكون وقفًا بالشك، وأبو يوسف يقول: العرف الظاهر فيما بين الناس إنهم يريدون بهذا الوقف على الفقراء وكان مشايخ بلخ يفتون بقول أبي يوسف، قال: صدر الشهيد في (واقعاته) ونحن نفتي به أيضًا وكذلك إذا قال: أرضي هذه حرمتها أو حبستها أو قال: هي محرمة أو قال: محبوسة أو قال: حبسته فهو على الخلاف أيضًا، وكذلك إذا قال: أرضي هذه موقوفة محرمة حبس، أو قال: موقوفة حبس محرمة لا تباع ولا توهب ولا تورث فهو على الخلاف أيضًا.
وكذلك لو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة أو قال: أرضي هذه وقف أو قال: صدقة محبوسة فهي بلا خلاف هذا إذا لم يعين إنسانًا، فأما إذا عين بأن قال: وقفت أرضي هذه على فلان أو قال: داري هذه موقوفة على فلان أو قال: على ولدي أو قال: على قرابتي وهم يحصون لا يجوز.
فرق أبو يوسف بين هذا وبينما إذا لم يعين إنسانًا.
والفرق: أنه إذا لم يعين انسانًا فالجواز باعتبار أنه وقف على الفقراء ظاهرًا بحكم العرف، وإذا عين إنسانًا لا يمكن أن يجعل هذا وقفًا على الفقراء هذا إذا عين إنسانًا وذكر لفظ الوقف مفردًا، أما إذا ذكر صفة لفظ الصدقة بأن قال: أرضي هذه صدقة على ولدي، كان وقفًا. والغلة لفلان مادام حيًا، وإذا مات هو يصرف الغلة إلى الفقراء؛ لأنه لما نص على الصدقة والصدقة لا تكون إلا على الفقراء كان هذا وقفًا على الفقراء، وكان ذكر فلان لتخصيصه بالغلة في الباب الأول من الوقف (الواقعات)، وعن أبي يوسف أنه إذا عين إنسانًا وقال: وقفت أرضي، هي وقف لك، حبستها لك فهو تمليك منه يتم بالتسليم إليه، وفي شروط محمد بن مقاتل رحمه الله قال: أبو يوسف جاز الوقف على رجل بعينه وإذا مات الموقوف عليه يرجع إلى ورثة الوقف، وفي (البرامكة): عن أبي يوسف يجوز الوقف على رجل بعينه، وإذا مات الموقوف عليه يرجع إلى المساكين، فصار في رجوع الوقف إلى ورثة الموقوف عليه روايتان عنه. وكل ذلك يدل على جواز الوقف على رجل بعينه وفي الوقف الخصاف إذا قال: جعلت هذه الأرض صدقة موقوفة على فلان وولده وولد ولده وأولاد أولادهم، فإذا سمى من ذلك فهو وقف مؤبد إلى يوم القيامة، قال: ثمة أيضًا وقال أبو يوسف، إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبدًا على فلان وولده وولد ولده فهو جائز، لقوله: أبدًا.
وفي (المنتقى) قال: أبو يوسف: إذا جعل أيضًا له صدقة موقوفة على ولده جاز ما داموا أحياءً، فإذا انقرضوا رجعت إلى صاحبها إن كان حيًا، وإلى ورثته إن كان ميتًا. قال: وليس هذا نظير قوله: أرضي صدقة موقوفة ينفق من عليها على فلان لأنه إذا قال: هي صدقة موقوفة على فلان فإنما أوجبها له خاصة، وإذا قال: هي صدقة موقوفة ولم يقل على فلان، فإنما أوجبها للفقراء، فإذا استثني أن ينفق من عليها، فإنما استثني من صدقة أمضيت فما ذكر في (الواقعات) وفي (وقف هلال) إذا قال: أرضي هذه موقوفة لله تعالى أبدًا، كان وقفًا صحيحًا على المساكين؛ لأن معنى قوله: أرضي صدقة أبدًا؛ لأن الوقف لله تعالى لا يكون إلا في وقف الأصل ليتصدق بالغلة، وكذلك إذا قال: موقوفة لله من غير ذكر الأبد، وكذلك إذا قال: موقوفة لرحمة الله أو قال: لطلب ثواب الله إذا قال: أرضي هذه صدقة، أو قال: جعلت أرضي هذه صدقة كان هذا نذرًا بالتصدق فينبغي أن يتصدق بنفسها أو يبيعها ويتصدق بثمنها، ذكر هلال في وقفه عن أبي حنيفة إذ قال: جعلت أرضي هذه للفقراء، إن كان هذا في تعارفهم وقفًا، وإن لم يكن في تعارفهم وقفًا، يسأل عنه ماذا أراد بقوله جعلتها للفقراء، إن قال: أردت أن تكون وقفًا على الفقراء، تكون وقفًا على الفقراء؛ لأنه نوى ما يحتمل لفظه، وإن أراد به الصدقة، أو لم يكن له نية فهو نذر بالصدقة، أمّا إذا نوى الصدقة، فلأنه نوى ما يحتمله لفظه، وأما إذا لم ينوِ، فلأن هذا فكان له بيانه أولى عند الاحتمال، ومتى صارت نذرًا كان عليه أن يتصدق بقيمتها كما لو نص عليه.
وإذا قال: أرضي هذه السبيل ولم يزد على هذا، فيه تفصيل: فإن كان هذا الرجل من قوم هذا اللفظ في متعارفهم: وقف، وإن لم يكن من قوم تعارفهم أن هذا وقف، يسأل عنه إن أراد به الوقف فوقف وإن أراد به الصدقة فهو صدقة فيتصدق بعينها أو بثمنها، وذكرنا في المسألة المتقدمة وهو ما إذا قال: جعلت أرضي هذه للفقراء ولم ينوِ شيئًا أنه يكون نذرًا ولا فرق بينهما؛ لأنه إذا صار نذرًا، فإذا مات يصير ميراثًا عند هذه الجملة في الباب الأول من (الواقعات). وفي هذا الموضع أيضًا إذا قال: ضيعتي هذه للسبيل، فلم يزد على هذا لم يصر وقفًا، إلا إذا كان القائل في ناحية يفهم أهل تلك الناحية بها الوقف المؤبد بشرائطه؛ لأن المطلق ينصرف إلى المتفاهم فيصير كالتصريح بالوقف وفي هذا الموضع أيضًا إذا قال: اشتروا من غلة داري هذه كل شهر بعشرة دراهم حرًا وفرقوا على المساكين صارت الدار وقفًا؛ لأن هذا لفظ يودي معنى الوقف، فصار كما قال: وقفت داري هذه بعد موتي على المساكين.
وفيه أيضًا رجل قال في مرضه: جعلت ترك كرمي وقفًا، وكان فيه تمرًا ولم يكن صار الكرم وقفًا وهذا؛ لأن الترك لا يصير وقفًا إلا بوقف الكرم فقال قوله وقفت ترك كرمي منزلة قوله وقفت كرمي بما فيه من الترك، وكذلك لو قال: جعلت غلة كرمي وقفًا وفي (وقف هلال) إذا قال: أوصى بأن يوقف بثلث أرضه بعد وفاته لله تعالى أبدًا، كان وصية بالوقف على الفقراء؛ لأن الوقف لله تعالى يكون وقفًا على المساكين فالأمر بالوقف لله يكون أمرًا بالوقف على المساكين وفيه أيضًا إذا قال: أرضي هذه موقوفة على وجوه البر أو على وجوه الخير فهو وقف صحيح على المساكين لأن البر عبارة عن الصدقة قال الله تعالى: {أن تبروهم} [الممتحنة: 8] والخير والبر بمعنى واحد، فصار على تقدير كلامه أرضي هذه صدقة موقوفة.

.الفصل الثاني: فيما يتعلق بجواز الوقف وصحته وشرائط صحته:

ذكر في (ظاهر الرواية) أن شرط جواز الوقف عند أبي حنيفة الإضافة إلى ما بعد الموت، أو الوصية حتى أو يضيف إلى ما بعد الموت، ولم يوصى به لم يصح. وقال أبو يوسف ومحمد: هذا ليس بشرط، حتى يمنع من بيعه ولا يورث عنه متى مات. وحاصل الخلاف راجع إلى أن تقدير الوقف مادي قال أبو حنيفة: تقديره حبست العين على ملكي، وتصدقت به على المساكين، فلا يصح إذا كانت الثمرة معدومة إلا بطريق الوصية، وعلى قولهما: تقدير الوقف إزالت العين عن ملكي إلى الله تعالى، وجعلته محبوسًا في ملكه ومنفعته للعباد، وهذا صحيح، وإن لم يكن موصي، كما في المسجد قال شمس الأئمة السرخي: الإضافة إلى ما بعد الموت أو الوصية عند أبي حنيفة ليست بشرط للجواز، فإن الوقف جائز عنده بدون ذلك، لكنه غير لازم، وإنما يصير لازمًا بالإضافة إلى ما بعد الموت، أو بالوصية به وهذا؛ لأن أبا حنيفة يجعل الواقف حابسًا العين على ملكه، صارفًا المنفعة إلى الجهة التي سماها، فيكون بمنزلة العارية، والعارية جائزة غير لازمة، ومعنى الجواز جواز صرف الغلة إلى تلك الجهة، وتفسير الوصية به أن يقول: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة وأوصيت به بعد موتي، فإذا قال ذلك يكون لازمًا، حتى لا يملك بيعه قبل الموت ولا يورث عنه، وذكر محمد رحمه في (السير الكبير) إذا أضافه إلى ما بعد الموت يصح عند أبي حنيفة بطريق الوصية لغلة داره لإنسان أو غلة أرضه أو يوصي ذلك للفقراء، وهو كالوصية بالعين وذكر الطحاوي أن الوقف المباشر في مرض الموت عند أبي حنيفة كالمضاف إلى ما بعد الموت، حتى أن الوقف المباشر في مرض الموت يقع لازمًا جائزًا على ما ذكره الطحاوي قال شمس الأئمة السرخسي رحمه: الصحيح أن المباشر في مرض الموت عنده كالمباشر في الصحة، حتى لا يجوز في ظاهر الرواية من غير الوصية والإضافة إلى ما بعد الموت، وحتى لا يلزم على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه.
وذكر شيخ الإسلام أن الوقف المباشر في مرض الموت إذا لم يكن مضافًا إلى ما بعد الموت عن أبي حنيفة روايتان وجه الرواية التي قال (فيها): لا يجوز أنه لم يوجد الإضافة إلى ما بعد الموت حقيقة فلا يجوز كالوقوف في حالة الصحة ولم يضف إلى ما بعد الموت وجه الرواية الأخرى أن تصرفات المريض كالمضافة إلى ما بعد الموت، ألا ترى أنه يعتبر بتبرعاته من الثلث فوجدت الإضافة إلى ما بعد الموت اعتبارًا. قال رحمه اللّه: التسليم إلى المتولي شرط صحة الوقف حتى إن على قوله لو لم يسلم الوقف إلى المتولي لا يزول عن ملكه وله أن يرجع في ذلك، وإذا مات يورث عنه، وقال أبو يوسف: التسليم إلى المتولي ليس شرط ويكتفي فيه بالإشهاد.
وجه قول أبي يوسف: أن الوقف تبرع شرع لإبطال ملك الواقف عن العين لا للتمليك، فيصح من غير قبض قياسًا على الاختلاف، بيانه: أن التمليك من الله تعالى، لا يتحقق من جهتنا فقصروا؛ لأن ما في أيدينا ملك الله تعالى على الحقيقة ولنا فيه ملك التصرف جاعلًا إلينا إبطال ملك التصرف، لا التمليك من الله، وتقريب ما مر بخلاف الصدقة المنفذة حيث لا يصح بدون القبض؛ لأن ما يثبت لله تعالى في الصدقة، يثبت في ضمن التمليك من الفقير؛ لأن التمليك منه مقصورة، فما يثبت لله تعالى في ضمنه يثبت على سبيل التمليك، وإن كان التمليك منه لا يتحقق ضرورة أن ما يثبت في ضمن الشيء يكون حكمه حكم ذلك الشيء، فأما في الوقف ما يثبت لله تعالى من الحق مقصودًا، إلا في ضمن التمليك من العباد، فإن العين الموقوف لا يصير ملكًا للعباد والتمليك من الله تعالى مقصودًا من العبد لا يتحقق.
وجه قول محمد قوله عليه: لا تجوز الصدقة إلا مقبوضة محوزة من غير فصل، والمعني فيه أن الوقف إزالة الملك بطريق التبرع، فيما يكون بالتسليم كما في الصدقة، وهذا لأنه لو تم قبل التسليم فيؤدي إلى أن يصير تبرعه سببًا للزوم ما لم يتبرع به، وكذلك التأبيد شرط عند محمد حتى لو وقف على جهة يتوهم انقطاعها بأن وقف على أولاده لم يجعل آخره للفقراء، لا يصح الوقف عند محمد وعلى قول أبي يوسف التأبيد ليس بشرط، حتى إن في هذه المسألة يجوز الوقف عنده، وإذا ماتوا وانقرضوا يعود إلى ملكه إن كان حيًا وإلى ملك ورثته إن كان ميتًا، والخلاف على هذا الوجه مذكور في شرح الطحاوي وفي شرح شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله، وقد ذكر محمد رحمه في آخر كتاب الوقف: أن الوقف المؤقت باطل، ولم يذكر فيه خلافًا فيحتمل ذلك على أنه قول محمد: وإن كان على الوفاق فهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، فقد روى الحسن بن مالك عن أبي يوسف: أن الوقف المؤقت باطل، وبعض مشايخنا قالوا: لا خلاف أن التأبيد شرط صحة الوقف، وإنما الخلاف في تلك المسألة في شيء آخر، أن عند أبي يوسف: أن التأبيد يثبت بنفس الوقف من غير اقتران شيء آخر به، وعند محمد لا يثبت التأييد بنفس الوقف ما لم يجعل آخره للمساكين أو الفقراء، ولما كان من مذهب أبي يوسف أن التأبيد يثبت بنفس الوقف، فإذا مات أولاده وانقرض رحمه تصرف الغلة إلى الفقراء.
وهذا القائل يقول ما ذكر في (شرح الطحاوي) وفي (شرح شمس الأئمة السرخسي): أنه إذا مات أولاده يعود إلى ملكه خطأ وفي (المنتقى) بشر عن أبي يوسف: إذا وقف أرض على ذي الحاجة من ولده وولد ولده ما تناسلوا أبدًا فذلك جائز، ولوقفها على فقراء ولده ولم يجعلها لفقراء النسل منهم لم يجز قال: ليس يجوز من الوقف إلا الوقف المؤبد، فإذا كان لقوم خاص لا يجوز الوقف عليهم؛ لأنهم فقراء، وأهل بيته ونسلهم ما تناسلوا فهو جائز، فإن انقرضوا ولم يكن استثني أنه لفقراء المسلمين فإنه يرد على فقراء المسلمين قال: من قبيل أن أصلها صدقة على ذوي الحاجة وقد أخرنا أولهما، وكان الوقف في ذلك على الأبد قال: وليس هذا كالوقف على ولده لا يذكر النسل؛ لأن الوقف على الولد ليس بوقف على الأبد وإذا ذكر النسل فهو وقف أبدًا، قال: وكذلك لو وقفه على نفس واحدة ونسلها، فالواحدة والجماعة سواء، وعن الحسن عن أبي يوسف: إذا وقف على ولده ونسله، أو على أولاده وأولاد أولاده أبدًا ما تناسلوا في الأخرى سواء في ما ذكرنا، وهو أنه إذا أمكن أن ينقرضوا لم يجز الوقف، وإذا وقف نصف أرض على الفقراء فعلى قول أبي يوسف: يجوز، وعلى قول محمد: لا يجوز.
واعلم أن الشيوع فيما يحتمل القسمة لا يمنع صحة الوقف، بلا خلاف، ألا ترى أنه لو وقف نصف الحمام يجوز: وإن كان كان مشاعا؛ لأنه لا يحتمل القسمة فصار كمية المشاع فيما لا يحتمل القسمة.
وفي الشيوع فيما يحتمل القسمة هل يمنع صحة الوقف؟ ففيه خلاف على قول محمد يمنع، وعلى قول أبي يوسف لا يمنع، وهذه المسالة في الحاصل بناءً، على أن القسمة فيما تحتمل القسمة من تمام القبض، وأصل القبض عند أبي يوسف فيما يحتمل القسمة ليس بشرط فكذا تمامه لا يكون شرطًا، وعند محمد أصل القبض فيما يحتمل القسمة شرط فكذا ما يتم به القبض، ولو وقف جميع أرضه أو داره ثم استحق نصفه أو ربعه أو ما أشبهه شائعًا، بطل الوقف فيما بقي عند محمد؛ لأن بالاستحقاق تبين أن ما أوقفه الواقف كان مشاعًا، ووقف المشاع فيما يحتمل القسمة عنده باطل، وهذا بخلاف ما لو استحق شيئ منه بعينه، حيث لا يبطل الوقف في الباقي؛ لأن هناك لا يثبت الشيوع في الباقي؛ لأن المستحق مميز ما بقي، فهو بمنزلة ما لو وقف دارين واستحق أحدهما، ومشايخ بلخ أخذوا بقول محمد.
ذكر في (فتاوى أبي الليث) تفريعًا على قول أبي يوسف فقال: إذا كان أرض بين شريكين وقف أحدهما نصيبه مشاعًا ثم اقتسما فوقع نصيب الواقف في موضع لأخر لا يجب عليه أن يقف ثانيًا؛ لأن بالقسمة يتعين الموقوف، وإن أراد الإخبار عن الخلاف نصفه ثانيًا، وإن كان الأرض كلها له فوقف بعضها ثم أرادا القسمة.
فالوجه في ذلك: أن يتبع ما بقي ثم يقتسمان؛ لأن القسمة إنما تجري بين اثنين، وإن كان لم يتبع ورفع إلى القاضي ليأمر إنسانًا معه جاز؛ لأن هنا القسمة جرت بين اثنين، وإذا قضى القاضي بجواز وقف المشاع ينفذ قضاؤه ويصير متفقًا عليه، كما في سائر المختلفات فإن طلب بعضهم القسمة قال أبو حنيفة: لا يقسم، ويتهاونون، وقال أبو يوسف ومحمد: يقسم وأجمعوا أن الكل لو كان موقوفا على الأرباب فارادوا القسمة لا يقسم في (واقعات الناطفي) وفي (فتاوى أبي الليث) أيضًا.
وصورة ما ذكر في (فتاوى أبي الليث): رجل وقف ضيعة له على بنيه وأرادا أحدهم قسمتها ليدفع نصيبه مزارعة، قال: قسمة الوقف لا تجوز من أحد وليس لأرباب الوقف أن يعقدوا على الوقف عقد مزارعة، وإنما ذلك إلى القيم.
وإذا كانت الأرض لرجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة على الفقراء ودفعاها إلى والٍ يقوم بها كان ذلك جائز؛ لأن مثله في الصدقة النافذة يجوز ففي الموقوفة أولى، وإن تصدق كل واحد منهما بنصفها مشاعًا على حدة صدقة موقوفة، وسلم كل واحد منهما نصفها إلى والٍ على حدة، لم يجز، وإن تصدق كل واحد منهما بنصفه على حدة صدقة موقوفة وجعل الوالي على ذلك رجلًا واحدًا، وسلما إليه جميعًا جاز ولو تصدق الواحد بجميع الدار على واحد وسلم النصف مشاعًا ثم سلم الباقي جاز.
وإنما جاء الفرق لأن العبرة في صحة الهبة وفسادها في الشائع ليمكن الشيوع وعدمه في القبض وقت ثبوت الحكم لا في العقد كما في الصدقة المنفذة وفي المسألة الأخيرة لم يتمكن الشيوع في القبض وقت ثبوت الحكم لأن الحكم إنما يثبت بقبض جميع المعقود عليه، وما يقبض بعض المعقود عليه؛ لأن العقد على الكل كان واحدًا، فكان تمكين الشيوع في القبض، ولم يكن الحال حال ثبوت الحكم ليمكن الثبوت حالة العقد ليس ذلك بمانع، وفي المسألة المتقدمة يمكن الشيوع في القبض وقت ثبوت الحكم؛ لأن نصيب كل واحد منهما جميع المعقود عليه لأنه يفرق العقد منهما.
وإذا كانت الأرض بين رجلين تصدقا بها على الفقراء صدقة واحدة، وجعل كل واحد منهما واليًا فهذا على رجلين إن جعل كل واحد منهما واليًا ليقبض نصيبه ونصيب صاحبه بأن قال كل واحد منهما لواليه: وليتك تقبض هذه الأرض، وإن جعل كل واحد منهما واليًا ليقبض نصيبه لا غير، لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول لم يتمكن الشيوع في القبض حال ثبوت الحكم.
ذكر الخصاف في (وقفه) تفريعًا على قول أبي يوسف فقال: أرض بين رجلين وقف أحدهما حصته منها وهو النصف، فله أن يقاسم شريكه فيقرر حصة الوقف؛ لأن ولاية الوقف إليه فإن كان الواقف قد مات فلوصيه أن يقاسم الشريك ويقرر حصة الوقف؛ لأن ولاية الوقف قد مات ولوصيه أن يقاسم الشريك وتقرر حصته الوقف.
وإن رجلين كانت بينهما أرض فوقف كل واحد منهما حصته على قوم معلومين فهو جائز، وإن كانا وقفاها جميعًا على وجوه سمياها ثم أرادا قسمتها فلهما ذلك، ويقرر كل واحد منهما ما وقف ويكون في يده يَتَولاها.
ولو أنَّ رجلًا وقف جميع أرضه ثم استحق نصفها شائعًا، وقضى القاضي للمستحق بالنصف وبقي النصف الباقي وقفًا على حاله عند أبي يوسف، كان للواقف أن يقاسم المستحق فيقرر حصة الوقف.
ولو وقف من داره أو أرضه ألف ذراع جاز عند أبي يوسف؛ لأنه يجز ذلك في البيع ففي الوقف أولى، ثم يذرع الأرض والدار فإن كانت ألف ذراع أو أقل كان كلها وقفًا، وإن كانت ألفي ذراع كان الوقف منها النصف، وإن كانت ألف وخمسمائة، كان الوقف منها الثلثان، وإن كان في بعضها نخيل وبعضها لا نخيل فيها، يكون للوقف من حصة النخيل.
رجلان بينهما أرض ودور، وقف أحدهما نصيبه من الأرضين والدور، ثم أراد الواقف أن يقاسم شريكه فله ذلك ويقسم كل أرض وكل دار على حدة، وقال أبو يوسف: إن كان الأصلح للوقف أن يجمع ذلك، جمع إذا كانت الأرض من أراضي قرية واحدة، وليس للواقف أن يأخذ دراهم من الشريك أفضل ما يصير إليه في القسمة لأنه بيع، وإن أعطى الواقف شريكه دراهم أفضل ما صار في يده، جاز ذلك ويكون حصته ما دفع من الدراهم مطلقًا له.
في (فتاوى الفضلي) امرأة وقفت منزلًا في مرضها على بناتها، ثم بعدهن على أولاد من أولادهن أبدًا ما تناسلوا فإذا انقرضوا فللفقراء، ثم ماتت من مرضها وخلفت من الورثة ابنتين وأختًا، والأخت لا ترضى بما صنعت، ولا مال لها سوى المنزل، جاز الوقف في الثلث ولم يجز في الثلثين بين الورثة على قدر سهامهم، ويوقف الثلث فما خرج من عليه قسم بين الورثة كلهم على قدر سهامهم يوقف الثلث ما عاشت الابنتان، فإذا ماتتا صرفت الغلة إلى أولادها وأولاد أولادها كما شرطت الواقفة لا حق للورثة في ذلك؛ لأن هذا الوقف وصية بالغلة للابنتين وأولادهما ما تناسلوا، فإذا لم تجز الأخت بطلت الوصية للابنتين، وجازت لأولادهما؛ لأن بطلان هذه الوصية من حيث أنها للوارث، إلا أن الوصية لأولادهما بعد موتهما. قال صدر الشهيد في (واقعاته): هذا التفريع يتأتى على قول أبي يوسف أن وقف المشاع جائز، أما لا يتأتى على قول محمد، وعندي أن هذا التفريع على قول الكل لأن حق الورثة إنما يثبت بعد الموت فإبطالهم في قدر الذي أبطلوا يقتصر على هذه الحالة، ولا يتبين أن ابتدأ الوقف في الجزء الشائع بل يكون هذا شرعًا طاريًا وسياتي بيان ذلك في كتاب الهبة إن شاء الله.
في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: رجل وقف دارًا له في مرضه على ثلاث بنات له وليس له وارث غيرهن قال: الثلث من الدار وقف والثلثان مطلق أن يصنعن بهما ما شئن قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا لم يجزن الوقف، فأما إذا أجزن صار الكل وقفًا عليهن قال: صدر الشهيد في (واقعاته): هذا التفريع إنما يتأتى علي قول أبي يوسف بناء علي أن وقف المشاع عنده صحيح وعندي أن هذا التفريع على الكل على ما بينا.

.الفصل الثالث: في بيان ما جاز من الأوقاف وما لا يجوز:

قال هلال في (وقفه): وقف أرض الجور، وتفسير أرض الجور: الأرض التي جرت لبيت المال بأن لا يقدر صاحبها على زراعتها الى الإمام ليكون منافعها حرًا للخراج، وإذا عرفت تفسير الجور فنقول: إن كان الإمام وقف هذه الأرض لا يجوز؛ لأنه لا يملكها وإن وقفها صاحب الجور وهو المالك يجوز؛ لأن الجور لا يوجب زوال الملك، ألا ترى أنه متى قدر صاحبها على زراعتها وطلب من الإمام أن يردها عليه ردها عليه؟
ذكر شيخ الإسلام في شرح (كتاب الوقف): إن الوقف علي أقرباء الرسول صلى الله عليه وسلّم جائز، وإن كانت الصدقة لا تحل لهم وفي (المنتقى) عن أبي يوسف إنه يجوز صرف صدقات الوقف إلى الهاشمي إذا سمي في الوقف، وهو دليل جواز الوقف وفي (الجامع الأصغر) أن الوقف على أهل رسول الله عليه السلام لا يجوز كالصدّقة قال ثمة: وفي الصدقة، الفريضة والتطوع سواء، وفي (شرح القدوري) أن الصدقة الواجبة كالزكاة والعشور والنذور والكفارات لا يجوز، فأما الصدقة على وجه الصلة والتطوع فلا بأس فصار في الوقف روايتان، وفي صدقة التطوع روايتان أيضًا.
ولو قال: ما لي لأهل بيت النبي عليه السلام وهم يحصون، يجوز ويصرف إلي أولاد فاطمة رضي الله عنها.
في (فتاوى أبي الليث): إذا وقف داره على فقراء مكة، أو على فقراء قرية، إن كان الوقف في حسابه أو صحته والفقراء يحصون، لا يجوز هذا الوقف؛ لأن الوقف لا يجوز إلا مؤبدًا وهذا لم يقع مؤبدًا، بجواز أنهم يموتون فينقطع الوقف، وإن كان الفقراء لا يحصون جاز الوقف؛ لأنه وَقَفَ مؤبدًا، وإن كان الوقف بعد موته يجوز، سواء كانوا يحصون (أو لا) أما إذا كانوا لا يحصون لأنه وقع موبدًا، وإما إذا كانوا يحصون فلأنه إن تعذر تجويزه وصيته، والوصية لقوم يحصون يجوز حتى إذا انقرضوا صار ميراثا عنهم.
قال الصدر الشهيد في (واقعاته) وينبني علي هذه المسألة مسألة أخرى، رجل قال: وقفت ضيعتي هذه علي فقراء قرابتي، وجعل أجره للمسلمين حتى جاز سواء كانوا يحصون أولا يحصون، فأراد القيم أن يفصل بعضهم على البعض فالمسئلة على ثلاثة أوجه: إما إن كان فقراء قرابته وقريته لا يحصون أو يحصون أو أحد الفريقين يحصون والفريق الآخر لا يحصون.
ففي الوجه الأول: للقيم أن يجعل نصف الغلة لفقراء القرابة ونصفها لفقراء القرية ثم يعطي لكل فريق من شاء منهم، ويفضل البعض علي البعض كما شاء؛ لأن قصده الصدقة وفي الصدقة الحكم كذلك.
وفي الوجه الثاني: يصرف الغلة إلى الفريقين بعددهم ليس له أن يفضل البعض على البعض؛ لأن قصده الوصية وفي الوصية الحكم كذلك.
وفي الوجه الثالث: يحعل الغلة بين الفريقين أولًا: فيصرف إلي الذين يحصون بعددهم وإلى الذين لا يحصون بينهم واحد لأن الذين يحصون لهم وصية والذين لا يحصون لهم صدقة، والمستحق الصدقة واحد ثم يعطي هذا السهم من الذين لا يحصون من شاء ويفضل البعض على البعض في هذا السهم كما شاء، وهذا التفريع يتأتى علي قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الفقراء عندهما اسم جنس أما لا يتأتى على قول محمد: إن الفقراء عنده اسم جمع، أصل هذا الاختلاف كتاب الوصايا ذكر الخصاف في باب الوقف الذي لا يجوز إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبدًا على الناس، فالوقف باطل والأرض على ملك الواقف، وكذلك إذا قال: على بني آدم أو على أهل بغداد، فإذا انقرضوا فهو علي المساكين، فالوقف باطل؛ لأن أهل بغداد لا ينقرضون، وكذلك لو قال: على الزمنى والعميان فالوقف باطل، وذكر الخصاف هذا العميان والزمني في موضع آخر وقال: الغلة تكون للمساكين ولا تكون على العميان والزمنى، وقال لأنه قال: صدقة موقوفة لله تعالى أبدًا وكذلك لو قال: وقف على قراء القرآن أو على الفقهاء فهو باطل لأن الغني فيهم والفقير، ولا يحصون، وفي (وقف هلال): أن الوقف على الزمني والمنقطع صحيح؛ لأنه يتأبدون ويكون للفقراء منهم دون الأغنياء.
قال مشايخنا: الوقف على معلم المسجد يعلم الصبيان فيه لا يجوز؛ لأنه مجهول ولا يشترط، يعني: لا يشترط فقره في الوقف وبعض مشايخنا قالوا: يجوز؛ لأن عامتهم الفقراء والفقير منهم غالب فصار بحكم الغلبة الفقير كالمشروط.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان القاضي الإمام رحمه الله يقول: وعلى هذا القياس إذا وقف على طلبة علم كورة كذا أو محلة كذا يجوز، وإن لم يشترط فقرهم لأنه عامتهم الفقراء، والفقير فيهم غالب، فصار الفقير كالمشروط قال: الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرح كتاب الوقف): الحاصل في جنس هذه المسائل أنه متى ذكر مصرفًا فيه تنصيص على الفقر والحاجة، فالوقف صحيح سواء كانوا يحصون أو لا يحصون، قوله سواء كانوا يحصون أو لا يحصون يشير إلى أن التأبيد ليس بشرط وقد ذكرنا قبل هذا بخلافه، ومتى ذكر يستوي فيه الغني والفقير يعني ذكرا بينما ينال الغني والفقير، فإن كانوا يحصون فذلك صحيح باعتبار أعيانهم، يريد به أنه يصح بطريق التمليك، وإن كانوا لا يحصون فهو باطل؛ لأنه لا يمكن تصحيحه وقفًا، لأنه لا يكون قصده الصدقة إذا كان يستوي فيه الغني والفقير، فلو صح صح بطريق التمليك وهم مجهولون؛ ولأن التمليك من المجهول باطل قال: إلا أن يكون في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالًا بين الناس لا باعتبار حقيقة اللفظ، كاليتامى فحينئذ إن كانوا يحصون والأغنياء والفقراء فيهم سواء وإن كانوا لا يحصون، فالوقف صحيح ويصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم؛ لأن الاستعمال بمنزلة الحقيقة في جواز تصحيح الكلام باعتباره.
قال الخصاف في (وقفه): إذا قال: أرضي هذه موقوفة على اليتامى، وكذلك إذا قال على الزمنى، ولو قال: على يتامى بني فلان وهم موات يحصون فهذا باطل، يعني لا يكون وقفًا إما يكون تمليكا منهم، وإن كانوا لا يحصون فهو جائز وهي للفقراء منهم دون الأغنياء، وهذا بناء على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في (وقف هلال) إذا قال: أرضي هذه موقوفة علي الجهاد أو الغزو أو في أكفان الموتى أو في حفر القبور أو غير ذلك مما يشبهها فذلك جائز؛ لأن هذه الوجوه مما يتأبد فصار الوقف علي هذه الوجوه بمنزلة الوقف على المساكين.
وفي وصايا (المنتقى) ابن سماعة قال: سمعت يقول: إذا أوصى في أكفان موتى المسلمين أو في حفر مقابر المسلمين فهذا باطل، ولو أوصى بثلثه أكفان فقراء المسلمين يجوز، وكذلك في حفر مقابرهم، وذكر ثمة أصلا فقال: الوصية إذا وقفت على الفقراء لا يشترط العينة بخلاف ما إذا وقفت مطلقة.
في (وقف هلال) إذا وقف على ابن السبيل صح؛ لأنهم ينقطعون ويكون لفقراء ابن السبيل دون اغنيائهم كما في اليتامى قال الخصاف: إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أو على زيد أو على قرابتي فالوقف باطل؛ لأنه جعل ذلك على شك، وكذلك لو قال: جعلتها صدقة موقوفة لله أبدًا على زيد أو عمرو ومن بعد ذلك على المساكين فهو أيضا باطل، ولو قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبدًا على فلان حال حياتي بعد أن الوقف جائز وتكون الغلة لفلان ما دام حيًا، فإذا توفي كانت الغلة للمساكين؛ لأنه قال: أبدًا.
وكذلك إذا قال: على فلان ولم يقل حياته، ولو قال: موقوفة على فلان بعد موتي، سنة فإنها تكون على ما قال سنة، ثم ترجع إلى الورثة؛ لأن هذه وصية، إذا قال: جعلت أرض فلان صدقة موقوفة على الفقراء، فبلغ ذلك صاحب الأرض فأجاز، فإنه يكون وقفًا من قبل مالكها وإليه ولايتها.
سئل الفقيه أبو بكر أيضًا: عمن وقف أرضًا له على مصاحف موقوفة ان يصلح ما يدرس منه قال: الوقف باطل؛ لأن هذا ليس من أوقاف الناس.
في (وقف هلال): رجل اشترى أرضًا بيعًا جائزًا ووقفها قبل القبض وبعد الثمن فالأمر موقوف، فإن أدى الثمن وقبضها فالوقف جائز، وإن مات ولم يترك مالًا تباع الأرض ويبطل الوقف، قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ.
وهذه بثلاث فصول: العتق والبيع والوقف، فالعتق قبل القبض ينفذ بلا توقف، والوقف بلا خلاف فيه بين أبي يوسف ومحمد، وكان الفقيه أبو نصر محمد بن محمد بن سلام يقول: ينبغي أن يبطل الوقف ولا يتوقف كالبيع، ولكن فرق بينهما هلال.
ووجه الفرق: أن الوقف يشبه العتق من حيث إنه لا يبطل بالشروط الفاسدة، ويشبه البيع من وجه وهو أنه يحتمل القبض بعد رجوعه فلشبهه بالعتق لا يبطل ولشبهه بالبيع لا ينفذ، فقلنا بالتوقف، وهذا الجواب على قول من لم يشترط القبض لصحة الوقف ظاهرًا، وعلى قول من يشترط القبض، وهو محمد كان الوقف كالهبة وهب المشتري قبل القبض وسلط الموهوب على القبض صح كذا الوقف.

.نوع من ذلك في تعليق الوقف بالشرط:

ذكر في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: إذا قال أحد إن مت من مرضي هذا فقد وقفت أرضي هذه، لا يصح برأ أو مات، فرق بين هذا وبينما إذا قال: إن مت من مرضي هذا فاجعلوا وقفًا.
والفرق: أن في الفصل الأول: علق الوقف بالشرط وتعليق الوقف بالشرط باطل، وفي الفصل الثاني: علق التوكيل بالشرط وتعليق التوكيل بالشرط صحيح وعلى هذا إذا قال: إن دخلت هذه الدار فقد جعلت أرضي هذه وقفًا لا يصح، ولو قال إن دخلت فاجعلوا أرضي هذه وقفًا صح لما مر، ذكر الخصاف في وقفه: إن كان غدًا فأرضي هذه صدقة موقوفة فهو باطل قال: لأنه لم يجعلها وقفًا الساعة، ولو قال: إذا قدم فلان، إذا كلمت فلان، فأرضي هذه صدقة فإن هذا يلزمه وهو بمنزلة اليمين والنذر، فإذا وجد الشرط وجب عليه أن يتصدق بالأرض ويكون وقفًا ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة إن شاء فلان، وقال فلان فذهب فهو باطل.
في (فتاوى أبي الليث): رجل ذهب له شيء فقال: إن وجدته فلله علي أن أوقف أرضي على أبناء السبيل، فوجدها يجب عليه أن يوقف؛ لأن هذا نذر والوفاء بالنذر واجب، فإن وقف فهذا على ثلاثة أوجه، إما إن وقف على الأجانب أو على القرابة التي يجوز إعطاء الزكاة اليها أو على القرابة التي لا يجوز إعطاء الزكاة إليها، في الوجه الأول والثاني، جاز وفي الوجه الثالث، لا؛ لأن صرف الصدقة الواجبة إلى من لا يجوز إعطاء الزكاة إليه لا يجوز، فلو وقف على القرابة التي لا يجوز إعطاء الزكاة إليها فالوقف صحيح، وأما النذر باقي؛ لأنه لم يؤد المنذور، نوع من ذلك في الوقف المنقول يجب أن يعلم أن الوقف المنقول تبعًا للعقار جائز بأن جعل أرضه وقفًا مع العبيد والثيران الذين يعملون فيها ويصير المنقول وقفًا تبعًا للعقار، وأما وقفه مقصودًا، إن كان كراعًا أو سلاحًا يجوز، ونعني بالسلاح السلاح، ونعني بالكراع جنس الخيل والابل، وإن كان ينوي ذلك إن كان شيئًا لم يجز التعارف بوقفه كالنبات والحيوان لا يجوز عندنا، وإن كان يتعارفًا كالفأس والقدوم والحبان ونبات الحبان وما يحتاج إليه من الأواني والقدور في غسل الموتى والمصحف لقراءة القرآن، قال أبو يوسف: لا يجوز، وقال محمد: يجوز وإليه ذهب عامة المشايخ منهم شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وذكر في شرح كتاب الوقف فقال: ما يتعارفه الناس ليس في عينه نص يبطله، فهو جائز كما في الاستصناع وغير ذلك.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا جعل ظهر دابته أو غلة عبده في المساكين لا يصح، في قول علمائنا رحمهم الله، أما على قول أبي يوسف فلأنه لايرى الوقف في المنقول إلا في الكراع، وأما على قول محمد فلأنه يعتبر العرف ولا عرف في هذه الصورة.
سئل أبو نصر عمن وقف الكتب قال: كان محمد بن سلمة لا يجيز وبصير كان يخبره وقد وقف كتبه وكان الفقيه أبو جعفر يجيز ذلك وبه أخذ، وسئل عمن وقف بقرة علي رباط على أن ما يخرج من لبنها وسمنها يعطى أبناء السبيل قال كان في موضع تغلب ذلك في أوقاته رجوت أن يكون جائزًا ومن المشايخ من قال: بالجواز مطلقًا، قالوا: لأنه جرى التعارف في ديار المسلمين بذلك.
وفي (الواقعات) ذكر هلال البصري في (وقفه): وقف البناء من غير وقف الأصل وهو الصحيح، وكذلك وقف الكردار بدون وقف الأصل لا يجوز، هو المختار لأن الكردار والبناء منقول ووقفها غير متعارف، وإذا كان الأصل البقعة موقوفة على جهة قرية فبنى عليها أبناؤها على جهة قرية أخرى اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن جهة القرية إذا اختلفت لا يصير البناء تبعًا للبقعة، ما بيّنَهُ ما إذا كانت البقعة له واستيفاؤها لنفسه، وقال بعضهم: يجوز لأن جهات القرية وإن اختلفت فالأصل القرية يجميعها، واختلاف الجهة لا يوجب اختلاف الحكم بعد إثبات الأصل القرية.
هذا كما قلنا: في سبعة نفر نحروا بقرة أو بدنة ونوى بعضهم الأضحية وبعضهم هدي المتعة أو القران، وبعضهم جزاء الصيد وبعضهم التطوع جاز لوجود أصل القربات، وبمثله لو نوي بعضهم اللحم لا يجوز، وكذا هاهنا.
وأما إذا وقف البناء علي الجهة التي كانت البقعة وقفًا يجوز ويصير تبعًا للبقعة كما لو وقف البناء والعرصة جميعًا على جهة واحدة، فأما إذا غرس شجرة ووقفها إن غرسها في الأرض غير موقوفة فلأن إن وقفها وموضعها من الأرض صح تبعًا للأرض بحكم الاتصال، وإن وقفها دون أصلها لم يصح وإن كانت في أرض موقوفة فوقفها على تلك الجهة جائز.
وإن وقفها على جهة أخرى فعلى الاختلاف الذي مر وهذا لأن الشجرة نظير البناء من حيث إن إقامتها بالأرض وهي تبع للأرض بحكم الاتصال كالبناء.
ذكر الخصاف في (وقفه) إذا وقف أرضًا ومعها رقيق يعملون فيها، فينبغي أن يسمى الرقيق في الوقف، ويبين عددهم، وكذلك بقر ينبغي أن يسمى البقر ويبين عددهم، وينبغي أن يشترط في الصدقة أن نفقة الرقيق والبقر من غلة الأرض وإن لم يشترط نفقتهم من غلة الأرض فان ضعف بعض الرقيق عن العمل، فان له أن يبيعه ويشتري بثمنه غلامًا فكأنه لم يجد بثمنه غلامًا مكانه، فأراد أن يزيد في ذلك من غلة الأرض فلا بأس بذلك؛ لأن ذلك من عمارة الأرض وكذلك الحكم في الدواب وآلات الزراعة إذا وقف مع الأرض، ولولاة الصدقة أن يعملوا ذلك.
وفي (وقف الأنصاري) وكان من أصحاب زفر إذا وقف الدراهم أو الطعام أو ما يكال أو يوزن أنه يجوز ويدفع الدراهم مضاربة ويتصدق بفضلها في الوجه الذي وقف عليه وما يكال ويوزن يباع ويدفع ثمنه مضاربة فعلى هذا القياس إذا قال: هذا الكر من الحنطة وقف على شرط أن يقرض الفقراء الذين لا بذر لهم أن يزرعوها لأنفسهم، ثم وجد منهم بعد إدراك قدر القرض، ثم يقرض لغيرهم من الفقراء أبدًا على هذا السبيل فهذا جائز.
قال: ومثل هذا كثر في الجبال التي في ناحية رماوند. وفيه أيضًا ان وقف الأكسية جائز، وتدفع الأكسية إلى الفقراء، فينتفعون بها في أوقات لبسها في الشتاء ثم يردونها إلى القيم.
وسئل أبو نصر عمن وقف دارًا وفيها حمامات يطرن ويرجعن، قال: يدخل في وقفه الحمامات الأهلية. في (فتاوى أبي الليث) وفيه أيضًا: لو وقف برج حمام أرجو أن يكون جائزًا؛ لأن الحمامات وإن كانت منقولة إلا أنها تصير وقفًا تبعًا للبيت، كما لو وقف ضيعة بما فيها من الثيران والعبيد، وكذلك لو وقف بيتًا فيه كوارات العسل يجوز، ويصير النحل وقفًا تبعًا للبيت، ويجب أن يكون تأويل هذه المسألة أن يوقف البيت والبرج بما فيه من النحل والحمام كما في وقف الأرض مع العبيد والثيران.
وقف كراسة على مسجد لقراءة أو على أهل المسجد المسجد جائز، والوقف على أهل المسجد إن كانوا يحصون يجوز أيضًا.
وفي (وقف الحسن بن زياد) إذا اشترى مصاحف وجعلها في المسجد الحرام أو في غيره من المساجد وقفًا مؤبدًا لأهل ذلك المسجد ولجيرانه ولمارة الطريق ولابن السبيل ليقرؤون فيها جائز في قول أبي يوسف.

.نوع منه فيما يدخل في الوقف من غير ذكر:

ذكر الخصاف في (وقفه): إذا وقف الرجل أرضًا في صحة على وجوه سماها ومن بعدها على الفقراء، فإنه يدخل في الوقف البناء والنخيل والأشجار، وذكر القاضي الإمام شمس الأئمة محمود الأوزجندي رحمه الله في شرح كتاب (الوقف) لهلال: أن الشجر الذي لا ثمرة له ولا غلة ففي دخوله في وقف الأرض روايتان، وأما الثمر هل يدخل في وقف الأشجار؟ ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب الرهن: ذكر هلال عن محمد أنه يدخل، وعلل فقال: لا صحة للعقد إلا بعد دخوله، فيدخل ضرورة وكما رهن في رهن قال رحمه الله: وأكثر مشايخنا أنه لا يدخل وهكذا ذكر الخصاف.
وإن وقف الأرض واستثنى الأشجار التي فيها لا يجوز الوقف؛ لأنه صار مستثنيًا الأشجار بمعنى أضيعها، فيصير الداخل تحت الوقف مجهولًا.
وأما الزرع هل يدخل في وقف الارض؟ حكي عن الفقيه أبي بكر رحمه الله: إن لم يكن للزرع قيمة يوم الوقف دخل، وإن كان له قيمة لا يدخل مالم يذكر، وذكر هلال: أنه لايدخل من غير فصل، وهكذا ذكر الخصاف قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ.
قال الخصاف: ولو كان فيها بقلٌ أو رياحين لا يدخل في الوقف، فما كان يقطع في كل سنة لا يدخل في الوقف، وما كان يقطع في كل سنتين أو ثلاث يدخل، والشرب لا يدخل إلا إذا ذكر الأرض بحقوقها أو بكل قليل وكثير هو لها.
وأما الرطاب فما كان من رطبة قد طلعت فهي للواقف، وما كان يقطع من أصول ذلك فهو داخل في الوقف، وكذلك الباذينجان والقطن إلا أن يكون شجرة القطن يجز في كل سنة، فإن كان كذلك لا يدخل.
وبصل العنبر والزعفران يدخل في الوقف، السكّر لا يدخل لأنه يقطع في كل سنة، فهو كالزرع وشجر الورد والياسمين يدخل في وقف الأرض، والرحا في الضيعة، رحاء الماء ورحاء اليد في ذلك على السواء، وكذلك الدواليب يدخل والدالية لا تدخل وفي وقف الدار إذا لم تكن الدار بحقوقها ولا بكل قليل ولا كثير، هو لها فيها ومنها من حقوقها يدخل. ما كان يدخل في بيع الدار وفي وقف الحمام يدخل قدر الحمام، وفي وقف الحوانيت يدخل ما كان يدخل في بيعها. وصواني الدباسين وقدور الدباغين لا يدخل في الوقف سواء كان في البناء أو لم يكن.

.نوع منه في الأوقاف المضافة:

سئل الخصاف عمن قال: جعلت ضيعتي- وحددها- صدقة موقوفة لله تعالى بعد سنة من هذا الوقت على المساكين هل تكون هذه الضيعة بعد مضي السنة وقفًا؟ قال: لا أحفظ عن أصحابنا في هذا شيئًا، وعندي أنه لا تكون هذه الضيعة وقفًا.
وإذا أوصى لرجل بغلة بستانه لرجل عشر سنين، ومات فجعل ابنه هذا البستان وقفًا صحيحًا بعد مضي هذه العشر سنين فهو جائز وهو وقف. وكذلك إن قال للموصي: قد جعلت هذا البستان وقفًا بعد مضي هذه السنتين، وهو يخرج من ثلثه فهو جائز، ولو أن رجلًا آجر ضيعة له سنين، ثم إنه جعلها بعد ذلك صدقة موقوفة لله تعالى أبدًا على سبيل سماها، ثم بعد ذلك على المساكين، قال: ليس لصاحب الأرض أن يبطل ما عقد عليه من الإجارة وكانت الضيعة وقفًا على ما جعلها عليه من الوقف الذي وقفها.
ولو أن رجلًا رهن ضيعة له من رجل، ثم أنه وقفها وقفًا صحيحًا فإذا افتكها الرهن، فالوقف جائز نافذ، وإن لم يصلها حتى مضى سنة أو سنتين، لا يبطل الوقف، حتى لو افتكها بعد ذلك كان وقفًا، فإن مات صاحب الضيعة في فصل الإجارة والرهن قبل الافتكاك، ففي فصل الرهن: إن كان له مال غير الضيعة أدى الدين من ماله وكانت الضيعة وقفًا، وإن لم يكن له مال غير هذه الضيعة بيعت الضيعة في الدين ويبطل الوقف، وأما في فصل الإجارة، فالإجارة تنتقض بموت الآجر أو المستأجر، وكانت الضيعة وقفًا.
وإذا اشترى ضيعة على أن البائع بالخيار، فوقفها ثم أجاز البايع البيع لم يجز الوقف والله أعلم.

.نوع منه في بيان ما لا يجوز من الأوقاف:

بلغني في الواقف: رجل حجر عليه القاضي لسفهه أو لدين عليه، فوقف أرضًا له لم يجز لأنه إنما حجر عليه القاضي لئلا يبذر ماله ولا يخرجه عن ملكه، وفي (الفتاوى) صبي محجور عليه وقف أرضًا له، قال الفقيه أبو بكر: وقفه باطل إلا بإذن القاضي، وقال الفقيه أبو القاسم: وقفه باطل وإن أذن له القاضي، لأنه تبرع فصار كالهبة والصدقة.

.الفصل الرابع: فيما يتعلق بالشروط في الوقف:

إذا وقف أرضه وشرط الكل لنفسه أو البعض ما دام حيًا وبعده للفقراء، فالوقف باطل عند محمد وهلال الرازي، وقال أبو يوسف: الوقف صحيح ذكر الخلاف على هذا الوجه في مواضع كثيرة، فأبو يوسف يعتبر الابتداء بالانتهاء لأنه يجوز الوقف على وجه يتوهم انقطاعها، وإذا انقطعت عادت الغلة إليه، فكذلك في الابتداء يجوز أن يقدم نفسه على غيره في الغلة، وهذا لأن معنى التقرب لا يزول بهذا، قال: عليه نفقة الرجل على نفسه صدقة، وقد صح برواية زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي عليه السلام: «كان يأكل من صدقته» وأراد به الصدقة الموقوفة.
ولا يحل للواقف الأكل من الوقف إلا وأن يشترطه لنفسه شيئًا من ذلك، دل أنه كان يشترط لنفسه شيئًا، وجه قول محمد: أن معنى التقرب في الوقف بإزالة الملك واشتراط كل الغلة أو بعضها لنفسه يمنع زوال الملك فيمنع صحة الوقف ومشايخ بلخ أخذوا بقول أبي يوسف، وعليه الفتوى ترغيبًا للناس في الوقف.
ذكر الفقيه أبو جعفر: إنه لو شرطه لنفسه أن يأكل من الغلة يجوز عند محمد، وكذلك لو شرط الغلة لإمامه فهو كان كإشراطها لنفسه، ولو شرط بعض الغلة لأمهات أولاده في حال وقفه ومن يحدث منهن بعد ذلك، وسمى لكل واحدة منهن كل سنة شيئًا معلومًا في حال حياته، وبعد وفاته فهو جائز بلا خلاف، أما على قول أبي يوسف فلأنه لو شرط بعض الغلة لنفسه حال حياته يجوز فهاهنا أولى، وأما على قول محمد فمشكل لأنه لا يجوز اشتراط الغلة لنفسه حال حياته واشتراطها لأمهات أولاده حال حياته بمنزلة اشتراطها، والوجه في ذلك لابد من (أن يكون) صحيح، هذا الشرط بعد وفاته لأنهن يعتقن بموته فاشتراطها لهن كاشتراطها لسائر الأجانب فيجوز ذلك في حال حياته أيضًا، تبعًا لما بعد الوفاة، وهذا كما قال أبو حنيفة في أصل الوقف إذا كان قال: وقفت أرضي هذه حال حياتي وبعد وفاتي يصير لازما للحال وكان لزومه في الحال تبعًا لما بعد الموت، وكذلك إذا سمي ذلك لمدبريه لأنهم يعتقون بموته كأمهات الأولاد، بخلاف العبيد والإماء على قول محمد. وإذا وقف وقفًا موبدًا واستثنى لنفسه أن ينفق من غلة هذا الوقف على نفسه وعياله وجهه ما دام حيًا، حتى جاز الوقف والشرط جميعًا عند أبي يوسف، فإذا انقرضوا صارت الغلة للمساكين، ولو وقف وقفًا على فلان أو على أقربائه بأعيانهم، جاز ما داموا أحياءً، فإن انقرضوا رجع اليه إن كان حيًا، والى ورثته إن كان ميتًا هكذا في (الأجناس).
وأشار إلى الفرق فقال في المسألة الثانية: أوجب الصدقة لهذا خاصة، فإذا مات لا ينتقل إلى غيره، وفي المسألة الأولى أجعلها صدقة موقوفة على الفقراء فقد مضت المسألة ثم أدخل الاستثناء رجعت إلى المساكين، وإذا وقف وقفًا وشرط لنفسه أن يأكل ويؤكل من أحب ما دام حيًا، ثم من بعده على ولده وولد ولده ونسلهم أبدًا ما تناسلوا، فإذا انقرضوا فهو على المساكين، فهو جائز عند أبي حنيفة، ولم يكن ذلك وصية للولد؛ لأن الولد يأكل من مال الله، ألا ترى أنه لو وقف على أولاده وأولاد أولاده أبدًا ما تناسلوا وجعل آخره للفقراء يجوز ذلك هنا ذكره في (الأجناس).
وفي (فتاوى أهل سمرقند) إذا وقف وقفًا وشرط لنفسه أن يأكل ما دام حيًا، ثم مات وعنده معاليق وزبيب من هذا الوقف لأن المستثني يرد إلى الوقف لأن المستثنى هو الأكل، وقد تعذر، ولو كان عنده حرير ذلك الوقف يكون ميراثًا عنه لورثته ولا يرد إلى الوقف، والفرق: أنه ليس للأوصياء أن يجيزوا ما خرج من البر فإذا خرج فقد فعل ما ليس له ذلك فملكه فيصير ميراثًا لورثته، وللأوصياء أن يتجددوا المعاليق والزبيب، فقد فعل ما له ذلك، فلم يملكه فلم يصير ميراثًا لورثته فيرد إلى الواقف أن يكون هو المتولي، فعلى قول أبي يوسف: الوقف والشرط صحيحان، وعلى قول محمد وهلال: الشرط والوقف باطلان. وهذا بناء على ما تقدم أن التسليم إلى المتولي ليس بشرط لصحة الوقف عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد شرط.
ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرحه): إذا شرط في أصل الوقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك، فيكون وقفًا مكانها، فهو جائز عند أبي يوسف، يعني الوقف والشرط، وكذلك إذا شرط أن يبيعه ويستبدل بثمنه مكانه، وعند محمد وهلال: الوقف جائز والشرط باطل؛ لأن هذا الشرط لا يؤثر في المبيع من زوال الملك والوقف يتم ذلك ولا يتقدم به معنى التأبيد أصل الوقف فيتم الوقف بشروطه، ويبقى الاستبدال شرطًا فاسدًا فيكون باطلًا في نفسه، وإن شرط في الوقف أن له بيع ذلك ولم يشترط الاستبدال بثمنه ما يكون وقفًا مكانه قال محمد: الوقف باطل، وعن أبي يوسف أن الوقف جائز والشرط باطل ذكره الخصاف في وقفه.
ولو شرط أن يبيعها ويستبدل بثمنها أرضا فاستبدل بثمنه دارًا أو عقارًا، ذكر الخصاف هذه المسألة في باب واحد في موضعين فقال في أوله: ليس له ذلك وفي أخرى قال: له ذلك. ولو اشترط لنفسه أن يبيعها وأن يستبدل بثمنها ولم يقل غير هذا، فهو باطل لأنه لم يقل ويستبدل بثمنه ما يكون وقفًا مكانه، ثم إذا جاز الوقف وشرط البيع والاستبدال بالثمن فباعه ما يتغاين الناس فيه فالبيع باطل، وإذا جاز البيع واشترى بثمنها أرضًا أخرى تكون وقفًا على شروطها، وليس له أن يبيع الثانية إلا إذا شرط ذلك في أصل الوقف، وإن باع الأرض وقبض الثمن وهلك في يده فلا ضمان، ويكون الثمن عنده أمانة، وليس له أن يبيع الأرض إلا بالدارهم في قول أبي يوسف، فإن باعها فردت عليه بعيب بعد القبض بقضاء أو غير قضاء أو بإقالة تعود وقفًا كما كانت وليس له أن يبيع الأرض بعد الإقالة، إلا أن يكون اشترط ذلك في الوقف، وإن باعها واشترى بثمنها مكانها أرضًا أخرى ثم ردت عليه الأولى بيعت بقضاء فإنه تعود كما كانت، وتكون الثانية له يصنع بها ما بدا له، فإن استحقت الأرض التي باعها من يد المشتري فالأرض الثانية لم يصنع بها ما شاء، ولا تكون وقفًا من قبل أن التي استحقت كان وقفه باطل.
وسئل شمس الإسلام محمود الأوزجندي عمن وقف على أولاده وقال لهم: إن عجزتم عن أمساكه فبيعوه قال: لو كان هذا شرطًا في الوقف كان الوقف باطلًا، وهذا يجب أن يكون قول محمد، أما على قول أبي يوسف يجوز الوقف ويبطل الشرط على ما ذكرنا قبل هذا.
وإذا شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة أيام فعلى قول أبي يوسف بن خالد: الوقف جائز والشرط باطل، محمد يقول: الوقف صحته تعتمد تمام الرضا، ألا ترى أنه لا يصح مع كره؟ واشتراط الخيار يمنع تمام القبض، ألا ترى أن في الصرف والسلم لا يتم القبض مع شرط الخيار؟ وأبو يوسف يقول: الوقف يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ ببعض الأسباب، واشتراط الخيار للفسخ، فيصح شرط الخيار فيه كما في البيع فان قال: أبطل الخيار، لا ينقلب الوقف جائزًا عند محمد، ذكره هلال في وقفه.
إذا شرط الولاية لنفسه في عزل القوام والاستبدال بهم من يده إلى يد المتولي، جاز نص عليه في (السير الكبير) لأن هذا الشرط لا يحل لشرائط. لو وقف ولم يشترط الولاية لنفسه، وأخرجه من يده، قال محمد رحمه الله: الولاية للقيم، وليس للواقف أن يعزله، وكذا لو مات وله وصي فلا ولاية لوصيه، والولاية للقيم قال أبو يوسف: لا ولاية للواقف.
وله أن يعزل القيم في حياته، وإذا مات الواقف بطل ولاية القيم عنده صحيح بدون التسليم إلى المتولي، كأن المتولي كالوكيل عنه فينعزل بموته إلا إذا جعله قيمًا في حال حياته وبعد وفاته فحينئذٍ يصير وقفًا، وعند محمد التسليم إلى المتولي شرط صحة الوقف فلا يكون المتولي كالوكيل عنه فلا يملك عزله في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: ما هو قريب من هذه المسألة وصورتها: إذا أخرج الوقف من يده وسلمه إلى المتولي، ثم أراد إخراجه من يده إن كان شرط في أصل الوقف أن له الإخراج من يد القيم فله أن يخرجه من يده؛ لأن شرط الوقف مراعى، وإن لم يشترط ذلك في أصل الوقف (ليس له) أن يخرجه من يده عند أبي يوسف خلافًا لمحمد.
قلنا: ذكر الخصاف في (وقفه) مسائل: على قول أبي يوسف فقال: إذا كتب في صك الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يملك ثم قال في آخر الكتاب: وعلى أن لفلان بيع ذلك، والاستبدال بثمنه ما يكون وقفًا، فله أن يبيع ويستبدل؛ لأن العبرة للآخر والآخر ناسخ للأول، وإن قال في أول الكتاب: على أن لفلان بيع ذلك، فليس له أن يبيع، ألا ترى أن رجلًا لو اشترى دارًا بمائة دينار وكتب في أول الشراء الخيار وفي أخره أنه لا خيار لفلان فيما اشترى؟ فما سمى ووصف في هذا الكتاب أن الشراء جائز وقد أبطل الخيار، وإذا شرط في الوقف أن يبيعه وأن يجعل ثمنه في وقف أفضل منه، حتى جاز الشرط والوقف عند أبي يوسف فله أن يبيعه، وذكر الأنصاري في (وقفه): أنه لا يبيع إلا بإذن الحاكم، قال الأنصاري أيضًا: وينبغي للحاكم إذا رفع إليه ولا منفعة في الوقف أن يأذن له في البيع إذا رآه أحوط لأهل الوقف، فإن باعها واشترى بثمنها أرضًا كان وقفًا، وليس له أن يبيع الأرض إلا أن يشترط ذلك في أصل الوقف ذكره هلال في (وقفه)، ولو شرط في أصل الوقف أن يبيع الوقف ويجعل ثمنه للمساكين لم يجز هذا الشرط ذكره الأنصاري في (وقفه)، وذكر الخصاف في وقفه لو شرط أن يبيعها ويصرف ثمنها إلى ما يرى من أبواب الخير فالوقف باطل، وإن شرط في أصل الوقف أن يبيعه ولم يبعه، لا يجوز لمن ولد بعده أن يبيعه.
في (وقف الأنصاري) إذا وقف ضيعته على أن له أن يبيعها ويصرف ثمنها إلى حاجة قال: أبو نصر الوقف جائز والشرط باطل، وعن أبي القاسم نحوه، وقال أبو بكر الإسكاف: الوقف باطل، قال الصدر الشهيد: وهو المختار؛ لأنه ينعدم فيه التأبيد، وكذلك لو حبس فرسًا أو سلاحًا وجعله وقفًا عشرين سنة، ثم هي مردودة إلى صاحبها لما قلنا.
في (فتاوى أبي الليث) وفي (سر العيون): حبس فرسًا في سبيل الله عشر سنين ثم هي مردودة على صاحبها فهو باطل، وعن أبي يوسف بن خالد السمتي أستاذ هلال أن الوقف جائز والشرط باطل، وكذا في الوقف على شرط أن يبيعه، كما قال أبو القاسم وأبو نصر.
وفي (فتاوى أبي الليث) إذا جعل فرسه للسبيل على أن يمسكه مادام حيًا إن أراد الإمساك ليجاهد عليه له ذلك؛ لأنه لو لم يشترط ذلك له أن يجعل السبيل إمساكه ليجاهد وإن أراد الإمساك لينتفع به غير الجهاد لم يكن له ذلك، وصح جعله للسبيل. في (فتاوى أبي الليث).

.نوع آخر:

لو أن رجلًا وقف أرضًا على قوم ثم من بعدهم على المساكين وشرط في الوقف أن له أن يزيد من رأى زيادة من أهل هذا الوقف وله أن ينقص من رأى نقصانه منهم وإن يدخل فيهم من رأى إدخاله ويخرج من رأى إخراجه فهو جائز على هذا الشرط فإن يزاد أحدهم منهم شيئًا على ما سمي له وأخرج منهم أحدًا أو أدخل أحد أهل له بعد ذلك، أن ينقص من رأى من بعضه أو يخرج من كان أدخله.
قال الخصاف في (وقفه): إذا فعل ذلك مرة فليس له أن يصر بعد ذلك، فإذا أراد أن يكون له ذلك أبدًا ما عاش يزيد وينقص ويدخل ويخرج مرة قال: يشترط ذلك ويقول في وقفه ومن زاد فلان شيئًا من غلة هذه الصدقة على ما جعله فله أن ينقصه بعد ذلك ومن نقضه فلأن شيئًا عما جعله من غلة هذه الصدقة فله أن يزيده بعد ذلك، ومن أخرجه عن هذه الصدقة، فله أن يدخل فيها بعد ذلك، ومن أدخل في هذه الصدقة، فلا يخرجه عنها بعد ذلك، هي ما رأى يفعل ذلك كله برأيه وبحصته على شبهه أبدًا ما كان حيًا رأيًا بعد رأي ومشيئه بعد مشيئة، وإن اشترط الواقف هذه الاشياء لإنسان ما دام حيًا فله ذلك، وإن اشترط لوالي هذه الصدقة من بعده ولم يشترط لنفسه.
قال الخصاف: اشترط ذلك لوالي الصدقة اشتراط لنفسه، وله أن يفعل ذلك ما كان حيًا، فإذا مات كان لوالي هذه الصدقة أن يفعل ما شرط له، وكذلك لو اشترط لوالي هذه الصدقة من بعده أن له أن يبيع هذه الصدقة، وما رأى منها وإن اشترى بثمن ذلك يكون وقفًا على ما سبيله له فهو جائز واشتراط ذلك لوالي الصدقة اشتراط لنفسه ولكل واحد منهما أن يفعل ذلك ولكن الوالي يفعل ذلك بعدما مات الواقف، وإن اشترط لوالي هذه الصدقة ما دام الواقف حيًا، فهذا له ولوالي الصدقة ما دام الواقف حيًا، فإن مات الواقف فليس للوالي أن يفعل ذلك، وإن اشترط الواقف أن يقضي دين من عليه فذلك جائز، وكذلك إذا قال: إن مت وعلي دين يؤدى من غلة هذه الصدقة بقضاء ما علي من الدين، فإذا قضى كانت غلة هذه الصدقة بعد ذلك جارية على ما سبيلها فذلك جائز، ولو شرط أن له يعني للواقف أن ينفق على نفسه وولده ويقضي دين من عليه، فإذا حدث به حدث الموت كانت غلة هذه الضيعة لفلان بن فلان وولده وولد ولده ونسله وعقبه أو بدأ بما جعل لفلان وآخر ما يجعل لنفسه.
قال الخصاف رحمه الله تقديمه وتأخيره سواء على مذهب أبي يوسف، وهو جائز على ما اشترطه.

.نوع آخر:

إذا قال: أرضي صدقة موقوفة أبدًا على أن أضع عليها حيث شئت جاز، وله أن يضع عليها حيث شاء فإن وضع في المساكين، أو في الحج أو في إنسان بعينه فليس له أن يرجع عنه، وكذلك لو قال: جعلتها لفلان أو أعطيتها فلانًا فلا يرجع عنه، ولو وضعها في فريق بعد فريق جاز؛ لأن المشيئة عامة، ولو وضعها في نفسه بطل الوقف، وهذا إنما لا يتأتى على قول هلال وهذا؛ لأن الوضع قد يكون عند نفسه وقد يكون عند غيره فنفسه محل الوضع كما أن غيره محل الوضع، فإذا وضع في نفسه فهو محل أو التحق بالتعيين في الابتداء وصار كما لو شرط الوضع في ابتداء الوقف وهناك يبطل الوقف على قول هلال فهنا كذلك بخلاف ما لو قال: على أن أعطي عليها من سبب أو أدفع إلى نفسه لا يكون فلم يتناول العقد نفسه فلغى الدفع والاعطاء إلى نفسه لما لم يتناول العقد، وبقي الوقف صحيحا على ما كان.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على أن لي أن أعطي عليها من شئت من ولدي، فالوقف صحيح وله أن يعطي من شاء من ولده؛ لأن ابتداء الوقف عليهم صحيح، ويجوز إعطاء الوقف أيًا منهم. ولو أراد أن يعطي عليها جميع ولده لا يجوز؛ لأن حرف من للتبعيض، فيترك واحدًا منهم. وفي الاستحسان: يجوز إذ لا يراد بمثل هذا الكلام التبعيض، وإنما يراد به إثبات الخيار لنفسه بين إعطاء الواحد وبين إعطاء الكل كما في قوله: كل من طعامي ما شئت، قال الفقيه أبو جعفر: القياس المذكور في المسألة قول أبي حنيفة، والاستحسان قولهما بناء على مسألة (الجامع) إذا قال لغيره: أعتق عبيدي من شئت، طلق من نسائي من شئت.

.نوع آخر:

إذا قال: أرضي صدقة موقوفة لله تعالى أبدًا على أن أعطي عليها من شئت من الناس، فهو جائز، وليس له أن يعطي نفسه. وإن قال بعد ذلك: جعلت عليها لفلان ما عاش، فذلك جائز ويصير كأنه سماه عند الوقف وشرط له ذلك، فإن قال بعد ذلك: حولتها عن فلان وجعلتها لفلان ليس له ذلك؛ لأن مشيئته قد انقطعت عن غلة هذا الوقف ما دام فلان حيًا؛ لأن تعيينه قد صح في هذه الحالة، والتحق بالتعيين في ابتداء العقد.
وهو نظير ما لو قال: أوصيت بثلث مالي إلى فلان يعطيه من شاء، فقال: فلان بعد موت الموصي: شئت أن أعطيه فلانًا، ثم قال بعد ذلك: أعطيته فلانًا آخر ليس له ذلك كذا هاهنا، فإن مات من جعل له الغلة ما عاش عادت المشيئة إلى الواقف؛ لأن جعل المشيئة إلى نفسه عاما في جميع ما يخرج الله تعالى من الغلات، وإنما قطع المشيئة في بعض الغلات وهو ما يوجد في حال حياة فلان، فتكون مشيئة باقية فيما وراءه. وإن مات الواقف قبل أن يجعل الغلة لواحد من الناس كانت الغلة للفقراء؛ لأنه لما قال في صدر الكلام: صدقة موقوفة قد جعلها للفقراء، وبقوله: على أن أعطي عليها من شئت، أستثنى عن حق الفقراء وبموته بطل الاستثناء، فعادت إلى الفقراء.
ثم يدخل في هذا الوقف (الفقراء) والأغنياء بخلاف ما إذا وقف على الأغنياء، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الأغنياء لا انقراض لهم، فلا يتصور أن للفقراء فيه حقًا بحال وإنهم مجهولون و(هذه) الجهة ليست بقربه، وفي مسألتنا يتصور أن يكون للفقراء حق بأن يعطي الفقراء.
ولو جعل غلتها لفلان سنة جاز وله أن يجعلها بعد ذلك لمن شاء، وإن جعل غلتها لرجلين فالغلة بينهما ما شاء، فان مات أحدهما فللحي نصف الغلة ولو قال: جعلت غلتها لولدي صح كما لو وقف عليه في الابتداء.
ولو قال: جعلت عليها لأهل الدنيا الفقراء والأغنياء فالقياس أن يكون الوقف باطلًا، وفي الاستحسان: الوقف صحيح والجعل باطل، وله المشيئة على حالها لأن أصل الوقف للفقراء وإنه جائز، إلا أنه استثنى الغلة لمشئية نفسه، فإذا لم تصح المشيئة بقي الوقف على حاله والمشيئة على حالها كأنه لم يشأ أصلًا، ولو أوصى بثلث ماله وقال: فلان يعطي من شاء فذلك جائز، فإن اختار أن يضع عند ابن الميت، فإن أجاز سائر الورثة جاز، وإن أبوا بطل وعاد الثلث إلى الورثة، وليس له المشيئة بعد ذلك؛ لأن تعيين الوصي، وإنه قائم مقام الموصي كتعيين الموصي.
ولو كان الموصي أوصى لوارثه لا يجوز، فكذا إذا عين الوصي وارثه للوصية.
ولو وقف في مرضه على أن يعطي فلانٌ غلتها من شاء، فاختار الوصي أن يضع ذلك في ولد الميت لا يجوز؛ لأن الوقف في المرض وصية وتعيين (الوصي كتعيين) الموصى، فكأن الواقف أوصى لولده، ويبطل الوقف قياسًا كما في الوصية؛ لأن تعيين الوصي كتعيين الموصي في الوقف، فكأن الموصي وقف على ولده في المرض فهذا كذلك. وفي الاستحسان: الوقف على الصحة؛ لأن أصله وقع صحيحًا للفقراء إلا أن الواقف جعل لفلان المشيئة، فإن شاء ما يصح به الوقف يصح وإلا يبطل مشيئته.

.نوع آخر:

إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على أن لفلان أن يعطي من شاء، فمات الواقف قبل أن يجعل فلان الغلة لأحد بطلت مشيئته قياسًا؛ لأنه نائب عن الواقف في المشيئة، وموت المنوب عنه يوجب بطلان النيابة، وفي الاستحسان: له المشيئة ما دام حيًا؛ لأن ملك الواقف قد زال بنفس الوقف، فلا يمكن أن يجعل فلان نائبًا عنه في المشيئة، وإنما هو يصرف للموقوف عليهم، فموت الواقف لا يبطل ولايته كمن وقف وقفًا نصب قيمًا، ثم مات الواقف.
فإن قال: فلان أعطيتها ولدي ونسلي جاز، وكذلك لو قال: جعلتها لولد الواقف جاز. ولو وضعها فلان في نفسه لم يجز، ولو أعطاها للواقف بطل الوقف بخلاف ما إذا جعل الواقف المشيئة إلى نفسه في إعطاء الغلة، فأعطى نفسه حيث لا يبطل الوقف؛ لأن ذلك لا يكون إعطاء؛ لأن اللفظ لا يتناوله، وهنا يكون إعطاء؛ لأن اللفظ يتناوله، فيتعين الواقف بتعينه، وصار كأن الواقف وقف على نفسه فيبطل ضرورة.
ولو قال فلان: جعلتها للأغنياء بطل الوقف؛ لأن تعيينه كتعيين الواقف، وكأن الواقف وقف على الأغنياء، وكذلك لو قال: جعلتها للواقف سنة ثم بعد ذلك للفقراء بطل الوقف كما لو وقف على نفسه ثم بعد ذلك على الفقراء، فإنه لا يصح؛ لأن في السنة لا يكون وقفًا وبعد السنة يكون تعليقًا بالحظر، وإنه لا يجوز.

.نوع آخر:

إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على بني فلان على أن لي (أن) أفضِّل من شئت منهم كان ذلك جائزًا، ويكون له أن يفضل من شاء ولو ردَّ المشيئة فقال: لا أشاء، أو مات كانت الغلة بين بني فلان بالسوية، ولو حرم بعضهم ليس له ذلك؛ لأنه جعل لنفسه المشيئة في تفضيل البعض على البعض لا في حرمان.
وكذلك لو وقف على بني فلان على أن لفلان أن يفضل من شاء منهم، ولو كان بنوا فلان ثلاث إخوة، فقال: لأحدهم فضله بنصف الغلة فله ثلثا الغلة، والثلث للآخرين؛ لأنه جعل له نصف الغلة خاصة، ولم يتصرف في النصف الآخر بشيء، فبقي بينهم بالتسوية بأصل الوقف، فكان له من ذلك ثلثه وله النصف خاصة، فجملة ذلك الثلثان والثلث للآخرين.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على أن لي أن أخص من شئت منهم، فهو كما قال: وله أن يخص من يشاء منهم، ولو دفع الكل إلى الكل، القياس: أن لا يجوز عملًا بكلمة (من). وفي الاستحسان: أنه يجوز، وقد مر جنس هذا.
ولو قال: لا أخص واحدًا منهم هذه السنة جاز، وكان بينهم بالتسوية بأصل الوقف. ولو قال: لا أشاء أن أخص واحدًا منهم في حولي صار بينهما بالتسوية.
ولو قال: على أن لي (أن) أحرم من شئت منهم، فهو كما قال، وله أن يحرم من شاء منهم. ولو حرم الكل لا يعمل تحريمه قياسًا (حصته) لكلمة (من). وفي الاستحسان: يعمل كما مر. وقيل: هو قياس قول أبي يوسف ومحمد كما ذكرنا من مسألة (الجامع)، وإذا عمل تحريم الكل استحسانًا كان الغلة للفقراء؛ لأن قوله: صدقة موقوفة يقتضي أن يكون للفقراء. ولو قال: حرمتهم سنة يكون تلك السنة للفقراء، ثم بعدها يكون لهم.
ولو قال: حرمت فلانًا أو فلانًا فالبيان إليه، وإذا مات لا يكون البيان إلى الورثة. قال هلال: ولا يشبه هذا الوصية، يريد به إذا أوصى بثلث ماله لفلان أو فلان ومات الموصي كان البيان للورثة. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: مسألة الوصية على الخلاف: روي عن أبي حنيفة أن الوصية باطلة؛ لأن الموصى له مجهول، وعن أبي يوسف أن الوصية لهما لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، وبهذا الطريق قلنا: إن من أعتق أحد عبديه ومات قبل البيان شاع العتق فيهما. وعند محمد: الوصية صحيحة، والبيان للورثة. وفرق محمد بين الوصية وبين الوقف. والفرق: أن الوقف يزول عن ملك الواقف بنفس الايقاف، فحين مات لم يكن الوقف على ملكه ليخلفه وارثه في الملك، ثم ثبت له البيان بناء عليه.
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبدًا على زيد وعمرو ما عاشا، ومن بعدهما على المساكين على أن يبدأ بزيد، فيعطى من غلته في كل سنة ألف درهم، ويعطى عمرو قوته لسنة، فهو جائز على ما قال، فإن فضل بعد ذلك من الغلة شيء كان بينهما، وإن لم تكن غلته لسنة إلا ألف درهم يعطي ذلك زيدًا، إذا كان أقل من ألف، فذلك كلها لزيد، فإن مات زيد ثم جاءت غلة سنة يعطى عمرو قوته لسنة، فإن كان الغلة ثلاثة آلاف درهم، وقوت عمرو لسنة ألف درهم وقع إليه ألف درهم، ويكون له تمام نصف الغلة، وذلك خمسمائة (والباقي) للمساكين، فإن لم يمت زيد، ومات عمرو أعطي زيدٌ ألف درهم الذي سمي له وتمام نصف الغلة، ويكون الباقي للمساكين.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على زيد وخالد وعمرو، يبدأ بزيد فيكون غلة هذه الصدقة له أبدًا ما عاش، ثم لعمرو فيكون غلة هذه الصدقة له أبدًا ما عاش ينفد ذلك على ما ذكر من تقديم بعضهم، فإذا انقرضوا كانت الغلة للفقراء والله أعلم.

.الفصل الخامس: الإقرار بالوقف:

رجل في يده أرض، أقر في صحته أنها صدقة موقوفة، ولم يزد على ذلك جاز إقراره وهو وقف. ويجب أن يعلم بأن قول من الأرض في يده: هذه الأرض وقف إقرار بالوقف، وليس بابتداء وقف، حتى لا يشترط له شرائط الوقف، وهذا لأن قوله: أرضي هذه دعوى الأرض لنفسه وإنه من تصرف الملاك، واليد عند تصرف الملك دليل الملك، وإذا ثبت الملك له، كان قوله صدقة موقوفة ابتداء وقف، ولا كذلك هذا الأرض، ألا ترى أن من قال لعبد في يده: عبدي حر، كان ابتداء إعتاق؟ ولو قال: هذا العبد حر، كان إقرارًا بالعتق، كذا هاهنا، قال هلال البصري في (وقفه): ولا يجعل المقر هو الواقف لها وغيره، وهكذا ذكر الخصاف في (وقفه)؛ لأن قوله: هذه الأرض صدقة موقوفة يتعرض لأصل الوقف، أما لا يتعرض للواقف، وكما يجوز أن يكون هو الواقف يجوز أن يكون الواقف غيره، فحكمنا بأصل الوقف؛ لأنه لا احتمال فيه ولم نحكم بكونه واقفًا، ولا يكون غيره واقفًا لمكان الاحتمال، قال هلال: إلا أن يشهد الشهود أن هذه الأرض كانت لهذا المقر حين أقر فيجعل المقر هو الواقف، وهو كرجل في يديه عبد، أقر أنه حر وشهد الشهود أن العبد كان له حين أقر بهذا الإقرار جعلت الولاية له، وإن لم يشهدوا بذلك جعلنا العبد حرًا باقراره، ولم أحكم له في الولاء بشيء.
ذكر الخصاف الأنصاري في (وقفه): إذا قال: هذه الأرض التي في يدي صدقة موقوفة ويجعل كأنه هو الذي وقفها، ألا ترى أنه لو قال لعبد في يديه: إنه حر كان ولاؤه للمقر وجنايته على عاقلته؟ قال الشيخ الإمام أبو العباس: فعلى قياس هذا: إذا شهد الشهود أن الأرض في يديه هي وقف على الفقراء، ولم يذكروا من وقفها ينبغي أن يحكم أنها وقف من الذي هي في يديه وأنه هو الواقف.
قال بعض مشايخنا: قول هلال إلا أن يشهد الشهود أن هذه الأرض كانت لهذا المقر حين أقر، فيجعل المقر هو الواقف مشكل، وهذا لأن الشهادة لا تقبل إلا بعد خصومة صحيحة، وعلى من يصح الخصومة هذا حتى يشهد الشهود أنها كانت في ملك يوم المقر.
والجواب: يحتمل أن الخصومة وقعت بعد وفاته بأن كانت قرابته فقراء، فيقيمون البينة حتى يثبت أنه هو الواقف، فيكون صرف الغلة إليهم أولى، أو يحتمل أن في حال حياته تغلب عليها غيره، وزعم أنه هو الواقف، فيحتاج المقر إلى أن يقيم البينة أنه هو الواقف حتى ينزعها من يده والولاية له استحسانًا، حتى يقسم الغلة بين الفقراء، ولكن ليس له أن يوصي إلى غيره، وهذا لأن يد المقر على الأرض حجة ظاهرًا، إن كان يده هو الواقف كان يده بحصته، وإن كان الواقف غيره فكذلك لأنا نجعل كأن ذلك العين ولاه أمرها، فإن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد، واذا كانت يده محقة من حيث الظاهر، لا يجوز إبطالها عليه الحجة.
رجل في يده أرض أقر أنها صدقة موقوفة من قبل فلان فهذا على وجهين: إما يكون الاضافة إلى غيره بحرف من أو بحرف عن، وإما أن يضيفه إلى والده أو إلى رجل أجنبي، وإذا أضافه إلى الأجنبي إما أن يسمي ذلك الرجل بعينه أو لم يسمه بعينه.
فأما إذا أضافه إلى والده فإن أضافه إليه بحرف من بأن قال: هذه الأرض صدقة موقوفة من والدي، كان هذا إقرارًا بالملك لأبيه لأن كلمة من تستعمل في العرف غالبًا (للملك)، فقال: ادن مني فقد قرب الأرض الموقوفة إلى أبيه وتقريب عين من الأعيان إلى إنسان يكون للملك حقيقة؛ لأنه هو المقرب الكامل، فهو معنى قولنا: أقر بالملك لأبيه وأقر بالوقف عليه، فينظر إن كان على الأب دين أو أوصى بوصية وليس له مال آخر، فإنه يباع من الأرض قدر الدين والوصية، فيقضي الدين وينفذ الوصية من الثلث؛ لأن إقرار الوارث في حق الغريم أو الموصى له غير معتبر.
ثم في الباقي ينظر هل للميت وارث سواه أو لم يكن، فإن لم يكن بعد إقرار الباقي من الأرض وقفها على الفقراء؛ لأنه أقر على نفسه بحق الفقراء ظاهرًا؛ لأن الملك له في الظاهر، ثم ينظر إن لم يدع الولاية لنفسه، فلا ولاية له، وللقاضي أن يولي آخر من شاء، وإن ادعى الولاية قبل قوله استحسانًا حملًا لأمره على الصلاح، وأما إذا كان معه وارث آخر فإن أقر الآخر بجميع ما أقرَّ به هذا الوارث كان الجواب كما قلنا، وإن أنكر الوقف كان نصيب المنكر ملكًا له يتصرف فيه كما شاء ونصيب المقر وقف.
وأما إذا قال: هذه الأرض صدقة موقوفة عن والدي، فإنه يكون هذا إقرارًا بالملك في الأرض لوالده ولا (يكون إقرارًا) هو الواقف؛ لأن كلمة (عن) استعمل للتبعيد، ويكون معناه: وقفت هذه الأرض بسبب والدي، ولا (أقر) أنه لوالدي كما يقال: فلان تصدق عن والده كذا وفلان أعتق عن والده بكذا، واذا لم يكن هذا إقرارًا بالملك لوالده لا يقبل منازعة وارث آخر أيًا كان، ولكن صح إقراره أن الأرض وقف على الفقراء؛ لأنه أقر بما في يده أنه حق الفقراء ولا يجعل الواقف هو ولا غيره على ما مر، وكانت الولاية له استحسانًا كما ذكرنا قبل هذا.
فأما إذا أضاف الوقف إلى رجل أجنبي، فان ذكر رجلًا معروفًا سماه بعينه وكانت الإضافة بحرف (من) فإن كان ذلك الرجل في الأحياء وكان حاضرًا يرجع إليه؛ لأنه أقر بالملك له وشهد عليه بالوقف. فإن صدقه في جميع ذلك (يثبت) بتصادقهما، وإن صدقه في الملك، وكذبه (في الوقفية) يثبت (الملك) بتصادقهما ولم تثبت الوقفية لكون الشاهد واحدًا.
وإن كان ميتًا، فالأمر إلى ورثته في التصديق والتكذيب على ما ذكرنا، فإن صدقه البعض في جميع ذلك وكذبه البعض في الوقفية، فنصيب المصدق وقف ونصيب الجاحد ملك له يتصرف فيه كما شاء. وأما الولاية ففي حال تصديق الورثة له استحسانًا، فإذا صدقه البعض في الوقفية، وكذبه البعض، فلا ولاية له قياسًا. قال هلال: وبالقياس نأخذ في هذه الصورة، وكذلك إذا صدقوه في الوقف وكذبه البعض في الولاية فلا ولاية له قياسًا، قال: هلال آخذ فيه بالقياس؛ لأن حال تصديقهم إنما أثبتنا له الولاية لانعدام المنازع وقد وجد المنازع هاهنا فلا ولاية له لهذا. قال: إلا أن يشهد شاهدان بالولاية على الجاحدين، وشهادة الوارثين في ذلك مقبولة؛ لأنه لا تهمه في شهادتهما؛ لأنهما لا يجران إلى أنفسهما منفعة ولا يدفعان عن أنفسهما غرامة، وإن كانت الإضافة بحرف (عن) فهذا ليس بإقرار بالملك لفلان على نحو ما بينا.
وأما إذا كانت الإضافة إلى أجنبي لم يسمه بأن قال: هذه الأرض صدقة موقوفة من فلان أو عن فلان صار وقفًا؛ لأنه أقر بما في يده للفقراء، فيصح كما لو لم يضفه إلى أحد، فإن سمى بعد ذلك رجلًا لم يصدق إذا كان مفصولًا وكانت الإضافة بحرف (من)؛ لأنه لو صدق أدى إلى إبطال حق الفقراء بعد ثبوته؛ لأن ذلك الرجل ينكر الوقف ويعتبر إنكاره؛ لأن المقر بالوقف ما أقر له بالملك في هذه الصورة، والولاية له بعد الإقرار الثاني يريد به إذا كانت الإضافة بحرف (من)؛ لأن الإقرار الثاني كما لم يعتبر جعل كالسكوت، فلا يصير به ما كان قبله.
ولو أقر بالوقف وسكت عن ذكر الموقوف عليه ثم ذكره بعد ذلك أن الموقوف عليه فلان وفلان فالقياس أن لايقبل قوله الثاني؛ لأن بالكلام الأول صارت الغلة حقًا للفقراء، فلا يصدق في صرفها إلى غيرهم. وفي الاستحسان يقبل؛ لأن العادة جرت بذكر الأوقاف دون الموقو ف عليه إلا عند الاستثناء وعن الموقوف عليه.
ولو أقر أنها صدقة موقوفة على وجه سماها ثم بين بعد ذلك وجهًا آخر لا يقبل قوله الثاني قياسًا واستحسانًا، ويكون ما بين أولًا لأن في الوجه الأول الحاجة إلى البيان ما بينه، فيقبل قوله في البيان. وفي الوجه الثاني لا حاجة إلى البيان فلا يقبل وهذا أصل كبير في كتاب الإقرار أن البيان إنما يعتبر عند مساس الحاجة إليه.
أرض في يدي رجل قال صاحب اليد: هذه الأرض ولايتها للقاضي فلان وهي صدقة موقوفه لم يصح إقراره؛ لأن كما قال: ولايتها للقاضي فلان هذا أقر باليد وبحق التصرف كذلك للقاضي ثم ادعى الانتقال إليه، فلا يثبت ذلك إلا بحجة، ولكن إن كان الوقف العتق يتلوم القاضي في ذلك زمانًا، فإن صح أمرها وإلا جوّز إقراره وألزمه قسمة الغلة على نحو ما أقر، قال هلال: أستحسن ذلك حتى لا يؤدي إلى إبطال الوقوف في العتق، ولو قال: هذه الأرض ولايتها (للقاضي والدي) ثم توفي والدي وأوصى إلي وهي صدقة موقوفه على كذا لا يقبل قوله. وكذلك لو قال: هذه الأرض كانت في يد والدي أو قال: كانت في يد فلان، فأوصى بها إليَّ وهي صدقة موقوفة لا يقبل قوله. وكذلك لو قال: كانت في يد فلان وقد أوصى إلي، وكانت في يد فلان آخر قبل ذلك وقد أوصى بها إلى فلان الذي أوصى بها إلي لا يقبل قوله ويؤمر بالتسليم إلى وارث فلان الذي أقر أنها كانت في يده وأوصى إلى ذلك الذي أوصى بها؛ لأنه أقر باليد له ثم شهد بزوال اليد.
قال الخصاف في (وقفه): لو أن رجلًا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على زيد بن عبد الله وولده وولد ولده ونسله وعقبه أبدًا ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فقال زيد: إن الواقف جعل هذه الوقف علي وعلى ولدي وولد ولدي وعلى عمرو، فإنه يصدق على نفسه ولا يصدق على غيره، فينظر إلى الغلة عند قسمتها فيقسم على زيد وعلى من كان موجودًا من ولده وولد ولده ونسله، فما أصاب زيدًا منها دخل عمرو معه في ذلك، فيكون حصة زيد بين زيد وبين عمرو أبدًا ما كان زيد في الأحياء، فإذا مات زيد بطل إقراره ولم يكن لعمرو حق في هذه الصدقة.
وكذلك لو كان الواقف وقفها على زيد ومن بعده على المساكين، فأقر زيد لعمرو على نحو ما بينا كان لعمرو أن يشارك زيدًا في غلة الوقف ما دام زيد في الأحياء فإذا مات كانت الغلة كلها للمساكين.
وكذلك لو أن زيدًا أقر أن الواقف وقف هذه الأرض كلها على عمرو وحده، فهو على ما أقر، فإذا كانت الغلة كلها للمساكين.
وفيه أيضًا: رجل في يديه أرض أو دار ادعاها رجل عند القاضي إنها له، والذي في يديه يقول: هذه الأرض وقف وقفها رجل حر من المسلمين على المساكين، ودفعها إلي، فإن القاضي يجعل الأرض وقفها على ما أقر به، ولكن لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بذلك، حتى أن المدعي لو قال للقاضي: حلفه ما هذه الأرض لي، فإن القاضي يحلفه، فإن نكل عن اليمين أو أقر بها لهذا الرجل، فالقاضي يضمنه قيمة الأرض ولا يبطل ما مضى به من الوقف، فإن كان الذي في يديه الدار قال: هذه الدار وقف، وقفها رجل حر من المسلمين على فلان وفلان وعلى أولادهم ونسلهم أبدًا ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، وقال هؤلاء الذين أقر المقر أنها وقف عليهم: إن هذه الدار لهذا المدعي، وإنها لم تكن للذي وقفها علينا، قبل قولهم على أنفسهم في غلة الدار، فيكون غلتها للمدعي إن لم يكن لهم أولاد وأولاد أولاد، فإن مات هؤلاء المسمون كانت الغلة للمساكين، فلو أن الذي في يديه الدار بعد ما أقر أنها وقف على فلان وفلان وأولادهم ومن بعدهم على المساكين إن أقر أن الدار للمدعي، ثم إن هؤلاء المسمون حضروا وكذبوا صاحب اليد في إقرار وقف لم يكن بينة على المدعي، كان له أن يستحلف هؤلاء المسمين على دعواهم، فإن أقروا بالدار للمدعي ونكلوا عن اليمين، كان إقرارهم جائزًا على أنفسهم دون أولادهم وأولاد أولادهم والمساكين وكذا لا يجوز على الرقبة.
في (فتاوى الفضل) سئل عمن أقر بوقف صحيح، وأنه أخرجه من يده، ووارثه أخرجه من يده، ووارثه يعلم أنه لم يكن أخرجه من يده قال: إقراره على نفسه جائز والوقف صحيح.
رجل في يديه دار وأقر الذي في يديه الدار أن هذه الدار وقف وقفها رجل من المسلمين في أبواب البر وعلى المساكين ودفعها إليه وولاه القيام بها، ثم جاء رجل وقدم صاحب اليد إلى القاضي، وقال: أنا وقفت هذا الوقف على هذه الوجوه والسبل ودفعتها إلى هذا ووليته القيام بأمرها، وأراد أن يقضيها من يدي الذي هي في يديه، ينظر إن كان الذي في يديه صدقه أنه هو الذي وقفها، فله أن يقضيها منه، وإن كان هذا الرجل الذي جاء قال: أنا مالك هذه الأرض وما وقفتها وإنما دفعتها إليه وديعة، وصاحب اليد يقول: إنها كانت له، إلا أنه وقفها على هذه الوجوه التي ذكرتها، فإن القاضي لا يقبل قول صاحب اليد لأن هذه الأرض لهذا المدعي؛ لأنه لو قبل قوله صار ملكًا لهذا الرجل فيبطل الوقف فيها.
ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في (واقعاته): أن من مات وترك ابنين وفي يد أحدهما ضيعة يدعي أنه وقف عليه من أبيه والابن الآخر يقول: هي وقف علينا، كان القول قوله، وهي وقف عليهما هو المختار؛ لأنهما تصادقا على أنها كانت في يد أبيهما فلا ينفرد أحدهما باستحقاقها إلا بالحجة.

.الفصل السادس: في الولاية في الوقف:

ذكر هلال رحمه الله: إذا وقف الرجل أرضه، ولم يشترط الولاية لنفسه ولا لغيره إن الوقف جائز والولاية للواقف، وهكذا ذكر الخصاف في وقفه. قال هلال: وقد قال قوم: إن الواقف لو شرط الولاية لنفسه كانت الولاية له، وإن لم يشترط فلا ولاية له، قال مشايخنا: الأشبه أن يكون هذا قول محمد؛ لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط صحة الوقف، فإذا سلم لا يبقى له ولاية، وجه هذا القول: أن ولايته كانت بحكم الملك وبالوقف أزال ملكه فتزول ولايته، وجه ما ذكر هلال: أن الواقف أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته، ألا ترى أن المعتق أولى الناس بالمعتق؛ لأنه أقرب إليه؟
وفي (فتاوى أبي الليث) إذا وقف أرضًا وسلمها إلي المتولي ثم أراد أن يأخذها منه، فإن كان شرط في الوقف أن له العزل والإخراج من يد المتولي فله ذلك، وإن لم يكن شرط ذلك، فعلى قول أبي يوسف: له ذلك، وعلى قول محمد: ليس له ذلك بناء على ما قلنا.
واذا كان الوقف على الفقراء وشرط الواقف الولاية لنفسه، وكان هو منهما غير مأمون على الوقف، فللقاضي أن ينزعها من يده؛ لأن القاضي نصب ناظرًا للفقراء لكل من عجز عن النظر لنفسه بنفسه، وبالوقف زال ملكه وثبت الحق فيه للفقراء، فإذا كان متهمًا كان للقاضي أن يخرجه نظرًا للفقراء كما له أن يخرج الوصي نظرًا للصغار.
وكذلك لو ترك العمارة وفي يده من غلته ما يمكنه أن يعمره فالقاضي يجبره على العمارة، فإن فعل وإلا أخرجه من يده.
ولو شرط الواقف ولايتها لنفسه وأن ليس للسلطان ولا للقاضي أن يخرجها من يده ويوليها غيره، فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن الشرع أطلق للقاضي إخراج من كان متهمًا دافعًا للضرر عن الفقراء.
ولو جعل الواقف ولاية الوقف لرجل، كانت الولاية له كما شرط الواقف، ولو أراد الواقف إخراجه كان له ذلك، ولو شرط الواقف أن ليس له إخراج القيم فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن القوامة وكالة والوكالة ليست بلازمة، ولو جعل إليه الولاية في حال حياته وبعد وفاته كان جائزًا فكان وكيلًا في حال حياته وصيًا بعد الموت، ولو قال: وليتك هذا الوقف فإنما له الولاية حال حياته لا بعد وفاته.
ولو قال: وكلتك بصدقتي هذه في حياتي وبعد وفاتي فهو جائز، وهو وكيله في حياته ووصيه بعد وفاته.
و(إن) لم يشترط الواقف الولاية لأحد وحضره الموت فقال لرجل: أنت وصيي، ولم يزد على هذا فهو وصي في ماله وولده وفيما كان في يده من الوقوف؛ لأنه أطلق الوصاية ولم يخص، ولو أوصي إليه في الوقف خاصة قال محمد: هو وصي في الوقف خاصة على قولنا وقول أبي يوسف، وعلى قول أبي حنيفة: هو وصي في الأشياء كلها، هكذا ذكر هلال، والمشهور أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: هو وصي في الأشياء كلها، وعلى قول محمد: هو وصي فيما خص له، وما ذكر هلال فذاك جواب (النوادر) وهو المذكور في (مختصر الكرخي)، فأما في (ظاهر الرواية): فقول أبي يوسف كقول أبي حنيفة، وجه قول محمد: أن الوصي يتصرف بحكم التفويض، فإنما تصرف بقدر ما فوض إليه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف: أن تصرف الوصي ليس بحكم التفويض، ألا ترى أنه لو أوصى إليه ولم يبين مقصوده صح؟ ولو كان تصرفه بحكم التفويض يشترط بيان مقصوده كما في التوكيل، ولكن الموصى به خلافه، وأقامه الموصي مقام الموصى والخلف يعمل الأصل على العموم كالجد لما كان خلفًا عن الأب قائمًا مقامه عمل على العموم، وعلى هذا لو أوصى إلى رجل في الوقف، وأوصى إلى آخر في ولده أو أوصى إلى رجل في وقف نفسه وأوصى إلى آخر في وقف آخر بعينه كانا وصيين فيهما جميعًا وسيأتي جنس هذه المسائل في كتاب الوصايا.
ولو وقف أرضه وجعل ولايتها إلى رجل، ذكر هلال عن محمد: أن الوصي يشارك القيم في أمر الوقف فكأنه جعل ولاية الوقف إليهما، فالأصل عند محمد هو قول هلال وإحدى الروايتين عن أبي يوسف: أن الخاص لا يشارك العام فيما وراء ما خص به والعام يشارك الخاص فيما يخصه وهو مقدر فيما وراءه، وعند أبي حنيفة، وأظهر الروايات عن أبي يوسف الوصاية لا تقبل التخصيص، فالعام والخاص فيه سواء.
ولو جعل ولاية الوقف بعد وفاته إلى رجلين أحدهما (قبل) ذلك ولم يقبل الآخر، فينبغي للقاضي أن يجعل مع الذي حل رجلًا يقوم مقام الذي لم يقبل، فإن كان الذي حل موضعًا لذلك عند القاضي ووضع ذلك القاضي إليه فهو جائز.
ولو قال الواقف: ولاية هذا الوقف إلى الأفضل فالأفضل من ولدي وإذا فضل القبول فالقياس: أن يقيم القاضي غير الأفضل مقام الأفضل مادام الأفضل حيًا، فإذا مات الأفضل صرف الولاية إلى من يليه في الفضل، وفي الاستحسان: الولاية لمن يليه في الفضل؛ لأن إباء الأفضل بمنزلة موته، ولو ولى القاضي أفضلهم ثم صار في ولده من هو أفضل منه، فالولاية إليه اعتبارًا لشرط الواقف، وإذا استوى الاثنان في الصلاح، فالأعلم بأمر الوقف أولى، ولو كان أحدهما أمينًا ورعًا وصالحًا، والآخر أعلم بأمر الوقف فالأعلم أولى بعد أن يكون بحال يؤمن خيانته.
ولو جعل الولاية إلى عبد الله حتى يقدم زيد فهو كما قال، فإذا قدم زيد فكلاهما واليان عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يحجر على عبد الله بعد وقد قدم زيد، وعلى قول هلال: تحولت الولاية إلى زيد ولا يبقى عبد الله واليًا.
وإذا جعل الولاية إلى رجل ومات ذلك الرجل حال حياة الواقف، فالأمر في نصب القيم إلى الواقف يقيم من أحب؛ لأن العين في الصدقة الموقوفة، وإن زال عن ملكه حقيقة فهو باقٍ على ملكه حكمًا، ألا ترى أنه جعل متصدقًا شرعًا بكل ما يحدث من الغلة كأنها حدثت على ملكه، وجعل هو متصدقًا لها صدقة جديدة؟ فدل أنها مبقاة على ملكه حكمًا فيعتبر بما لو كانت مبقاة على ملكه حقيقة وهناك التدبير في التصرف وفي نصب المتصرف إليه لا إلى القاضي كذا هاهنا، هكذا ذكر المسألة في (أصل الوقف) وفي (السير الكبير) وقال محمد رحمه الله: القاضي أولى بنصب قيم آخر، وإن مات القيم بعدما مات الواقف، فإن كان القيم قد أوصى إلى غيره فوصيه بمنزلته، وإن كان لم يوص إلى غيره فولاية نصب القيم للقاضي، ولا يجعل القيم من الأجانب ما دام يوجد من ولد الواقف وأهل بيته من يصلح لذلك لأنه أشفق على الوقف من الأجنبي به، وإن لم يوجد من ولد الواقف وأهل بيته من يصلح لذلك، جعل القيم من الأجانب في هذه الصورة ثم صار فيهم من يصلح لذلك صرفه إليه، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الوقف، وبعض مشايخنا ذكروا في شروحهم: أنه لا يصرف إليه إلا إذا كان الواقف شرط ذلك في الوقف.
المتولي إذا أراد أن يفوض إلى غيره عند الموت بالوصية يجوز، بمنزلة الوصي عند الموت، وللوصي أن يوصي إلى غيره، وإذا أراد أن يقيم غيره مقام نفسه (في) وصيته وصحته، لا يجوز إلا إذا كان التفويض إليه على سبيل العموم.

.الفصل السابع: في تصرف القيم في الأوقاف:

وهو أنواع: منه (ما) رجع إلى عمارة الوقف: رجل وقف أرضًا له على المساكين وقفًا صحيحًا ولم يذكر عمارتها في غلة هذه الأرض فهذا القيم أو لا من الغلة بعمارتها وما يصلحها وما فضل من ذلك يقسم على الفقراء، وهذا لأن العمارة وإن لم تكن مشروطة في الوقف نصًا فهي مشروطة اقتضاء، لأن مقصود الواقف إدرار الغلة مؤبدًا على المساكين، وهذا المقصود إنما يحصل بإصلاحها وعمارتها، فهي معنى قولنا: إن العمارة مشروطة اقتضاء ثابت بطريق الضرورة والضرورة تندفع بشرط العمارة من غلة هذه الأرض، فلهذا كانت العمارة في غلة هذه الأرض، فإن كان في أرض الوقف نخلة فخاف القيم هلاكها كان له أن يشتري من غلتها فصلًا فيغرسه، لأن النخل بنسله على امتداد الزمان فتهلك فينقطع ثمرها فكان إبقاؤها بالغرس مكانها حتى يبقى خلفًا عن سلف، وهو نظير الدار الموقوفة كرم ما استرم منه بإدخال خشبته ولبن ونحوها حتى لا يخرب، فإن كانت قطعة من هذه الأرض سبخة لا تنبت شيئًا فيحتاج الي كشح وجهها وإصلاحها حتى تنبت، كان للقيم أن يبدأ من غلة جملة الأرض بمؤنة إصلاح تلك القطعة؛ لأنها إذا صلحت كبرت الغلة فكان أنفع للفقراء.
قال: إذا أراد القيم أن يبني فيها قرية ليسكن أهلها وحفاظها ويحرز فيها الغلة لحاجته إلى ذلك كان له أن يفعل ذلك، لأن هذا من جملة مصالح الوقف، وهذا كالخان الموقوف على الفقراء إذا احتيج فيه إلى خادم يكشح الخان ويفتح الباب ويسده، فسلم المتولي إلى رجل بعض البيوت بطريق الأجرة له ليقوم بذلك فهو جائز وطريقه ما قلنا كذا هاهنا.
وإن أراد أن يبني فيها بيوتا يصلها بالإجارة فهذه المسألة في الحاصل على وجهين: إن كانت أرض الوقف متصلة ببيوت المصر يرعب في استئجار بيوتها ويكون غلة ذلك فوق غلة الأرض والنخل كان له ذلك، وإن كان أرض الوقف بعيدًا عن المصر، ولا يرغب في استئجار بيوتها بأجرة تزيد منفعتها علي منفعة الزراعة فليس له ذلك والوجه في ذلك أن الواقف ما عين جهة الاستغلال نصًا لكن عين الاستغلال بالزراعة فيجب العمل بهذا الظاهر ما لم يوجد جهة أخرى في حق الفقراء؛ لأنا نعلم قطعًا أن غرض الواقف من الوقف إنفاع الفقراء، ففي الوجه الأول وجدنا جهة أخرى هي أنفع في حق الفقراء من الزراعة، فتركنا هذا الظاهر تحصيلًا لغرض الواقف بأبلغ الوجوه، وقد روي عن محمد ما هو أبعد من هذا، فإنه قال: إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أرضًا أخرى هي أكثر ريعًا كان له أن يبيع هذه الأرض وثم يشتري بثمنها ما هو أكثر ريعًا، فأما في الوجه الثاني لم نجد جهة أخرى هي أنفع في حق الفقراء من الزراعة، فعملنا فيه بالظاهر، فلم يكن القيم في هذه الصورة مأذونًا بالبناء والاستغلال بالإجارة، فلا يكون له أن يفعل ذلك.
وإذا قال: داري هذه صدقة موقوفة على الفقراء على أن سكناها لفلان ما عاش، فإذا مات فلان سكانها لفلان آخر ما عاش، فإذا مات فلان فعلى الفقراء، فهذا وقف صحيح، وإذا صح الوقف واحتيج إلى العمارة (فالعمارة) على من يستحق الغلة كما في الباب الأول إلا أن في الباب الأول المستحق للغلة الفقراء، وهم قوم كثر لا يمكن مطالبتهم بالعمارة، فقلنا: بأن القيم يبدأ من الغلة بالعمارة، وهاهنا المستحق للغلة شخص معين يمكن مطالبته بالعمارة وهو الأول ما عاش وبعده الثاني، فلا يحبس شيء من الغلة لأجل العمارة بل تصرف كل الغلة إلى الأوقاف ويطالب بالعمارة، وله أن يعمرها من أي مال شاء، وإنما المستحق العمارة بقدر ما يبقى الوقت على الصفة التي وقفه المالك، ولا يطالب بالزيادة إلا أن يرضى فلان بالزيادة فحينئذ يكون تبرعا بالزيادة وله ذلك.
ولو كانت الغلة مصروفة إلى الفقراء وكان في زيادة العمارة زيادة في الغلة، ورأى القيم أن يزيد في العمارة لتزيد الغلة، اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا له ذلك وقاسوه بمسألة هذا أن أرضي أوقفت على الفقراء إذا كانت متصلة ببيوت المصر، فأراد القيم أن يبني فيها بيوتًا يستغلها بأجر فله ذلك وفيه صرف الغلة إلى زيادة العمارة من غير ضرورة، ومنهم من قال: ليس له ذلك؛ لأن صرف الغلة إلى العمارة ثبت ضرورة في الزيادة فوجب صرف الغلة إلى مصرفها وهو الفقراء، وهذا لأن المستحق على القيم العمارة بقدر ما تبقى الأرض موقوفة أو الدار على الصفة التي وقفها المالك ولا ينقص لأنها بصفتها صارت غلتها مستحقة الصرف إلى الفقراء، فأما الزيادة على ذلك فليست بمستحقة عليه والغلة مستحقة للفقراء، فلا يجوز صرف غلة مستحقة إلى جهة غير مستحقة، والدليل عليه أن المتولي لو أراد أن يشتري بالغلة دارًا أخرى أو أرضًا أخرى ليضمها إلى الأول، فيستغلها للفقراء ليس له ذلك، فأما بناء البيوت للغلة في أرض الوقف فليس ذلك من باب الزيادة إنما ذلك تبديل جهة الاستغلال إلى جهة خير من الأولى، فأما المستغل واحد والجهتان فيه مختلفان، فكان ذلك بمنزلة أصل العمارة لا بمنزلة الزيادة ولكن الإشكال قائم، فإنه لا ضرورة في صرف الغلة إلى تبديل جهة الاستغلال كما لا ضرورة في الزيادة هاهنا.
قال: فإن احتاج الوقف إلى العمارة في مسألتنا فلأن الذي شرط له الغلة ما عاش إما للأول، وأما الثاني إلى العمارة فإنه لا يجبر على العمارة لأن في العمارة إتلاف ماله ولكن لو أجر هذا الوقف من غيره بقدر ما ينفق من غلتها في العمارة، فإذا حصلت العمارة تصرف الغلة إليه وهذا لأنه لابد من العمارة كما مر، ويقدر خبرة هذا الرجل على العمارة، فحصلت العمارة في الغلة كما في باب الفقراء، وهذا الذي ذكرنا أنه لو أجر الدار من ماله وأبى البعض قال: من أراد العمارة عمر بحصته ومن أخر حصته وصرفت غلته إلى العمارة إلى أن يحصل العمارة ثم يعاد إليه، ويعتبر لكل بعض حكم نفسه فإن كان الواقف حين شرط الغلة لفلان ماعاش بشرطه على فلان مرمتها وإصلاحها فيها كأن لابد لها منه فالوقف جائز مع هذا الشرط لأن هذا الشرط يقتضيه مطلق العقد، وإنما أورد المسألة بهذا الشرط لنوع أشكال أنه لما شرط له السكنى وشرط عليه المرمة كان بمنزلة الإجارة والأجرة مجهولة فينبغي أن يفسد، والجواب أن مع اشتراط المرمة عليه لا يصير إجارة؛ لأن المرمة لا تصير مستحقة عليه بالشرط، فصار وجود هذا الشرط والعدم بمنزلة، فإن خربت الدار الموقوفة ورمها الذي شرط له السكنى من ماله ثم مات فالبناء ميراث لورثته (فيقال لهم) ارفعوا بناءكم، فإن رفعوه... له أن ملكوه الوقوف عليه بعد ذلك بالقيمة جاز بتراضيهم؛ لأن تمليك مال بمال بالتراضي، وإن أبى أحد الفريقين ذلك لا يجبر عليه؛ لأن الإنسان لا يجبر على البيع والشراء. ونظيره: من غصب ساحة وبنى عليها ثم مات وهناك الجواب كما قلنا فكذا في الوقف، فإن كان المشروط له السكنى أدار حيطان الدار الموقوفة بالآجر وجصصها أو أدخل فيها..... ثم مات ولا يمكن نزع شيء من ذلك إلا بضرر بالبناء، فليس لورثته أخذ شيء من ذلك صيانة لبناء الدار الموقوفة، ولكن يقال للمشروط له السكنى بعده اضمن لورثة الميت قيمة البناء ولك السكنى، فإن أبى أو خرب الدار فصرفت الغلة إلى ورثة الميت فقدر قيمة البناء، فإذا توفر عليه ذلك أعيدت السكنى إلى من له السكنى.
واستشهد في (الكتاب) لإيضاح ما ذكرنا بمسألة فقال: ألا ترى أن من عمر دارًا دخل بغير إذنه لا يخلص مرمتها إلا بضرر بالدار فإنه ليس للذي عمر الدار أن يأخذ مرمتها، ويقال لصاحب الدار: ضمن له قيمة مرمته كذا هنا، إلا أنَّهُ فرّق بين المسألتين أن في مسألتنا من له سكنى الدار إذا رضي أن يأخذ ورثة الميت، أماهم لا يصح رضاهم، وفي تلك المسألة إذا رضي صاحب الدار أن يأخذ الثاني مرمته صح رضاه، وقيل للآجر: خذ مرمتك، والفرق بينهما أن صاحب الدار مالك رقبة الدار، فإذا رضي بلحوق الضرر بملكه عمل رضاه، وفي باب الوقف الموقوف عليهم الفقراء وإنما صار السكنى لهؤلاء باستثناء السكنى بهم من سكنى الفقراء فيكون الضرر برفع البناء عائدًا إلى الفقراء فلا يصح رضاه، وإن كان ما رم الأول قبل تجصيص أو تطيين سطوح أو ما أشبهه ثم مات الأول، فليس لورثته أن يرجع بشيء من ذلك على الثاني، لأنها مستهلكة لها، ألا ترى أن رجلًا لو اشترى دارًا وجصصها أو طين سطوحها ثم استحقت الدار لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بقيمة الجص وإنما يكون له الرجوع على البائع بقيمة ما يمكن أن يهدمه ويسلم إليه.
ومن هذا الجنس:
ذكر في (فتاوى أبي الليث): حانوت موقوف على الفقراء وله قيم بنى رجل في هذا الحانوت بناء بغير إذن القيم ليس له أن يرجع بذلك على القيم، فبعد ذلك ينظر إن كان أمكنة رفع ما بنى من غير (أن) يضر بالبناء القديم فله رفعه، وإن لم يمكنه رفع ما بنى من غير أن يضر بالبناء القديم فليس له رفعه ولكن يتربص أن يتخلص ماله إن لم يرض هو بتملك القيم البناء للوقف، وإن اصطلح مع الوصي على أن يجعل البناء للوقف ببدل يجوز لكن ينظر إلى قيمته مبنيًا وإلى قيمته منزوعًا، فأيهما كان أقل لا يجاوز ذلك، قال المشروط له السكنى لا يؤاجر كالموصى له بالسكنى؛ لأنه ملك المنفعة بغير بدل.
وأما المشروط له الغلة والموصى له بالغلة هل له أن يسكن مكان أبو بكر بن سعيد يقول: لا يسكن.
وهكذا ذكر الخصاف في (وقفه)؛ لأن فيه ضررًا بالميت، فربما يظهر على الميت دين، فتصرف هذه الغلة إلى قضائه وبالسكنى يبطل ذلك، وكان أبو بكر الاسكاف يقول: له أنه يسكن، وقال: ما يسقط من البناء فللقيم أن يبيعه لأن الوقفية زالت حكمًا بأن فصار منقولًا، وهذا إذا لم يمكن إعادته إلى موضعه. فأما إذا أمكن أعيد إلى موضعه؛ لأنه من رقبة الوقف؛ لأن الثمن بدل ما سقط، وكذلك ما تناثر من البناء من تراب فللقيم بيعه وصرف ثمنه إلى المرمة، ولا يصرف من ثمن ما أسقط إلى الفقراء؛ لأنه بدل البعض والبعض من جملة تربة الوقف ولا حق للفقراء في تربته، وإنما الحق لهم في غلته ولا يصرف شيء من ذلك للفقراء، وإنما يصرف إلى المرمة وما فضل من ذلك عن المرمة يمسكه القيم إلى وقت الحاجة إلى المرمة، وإن كان المشروط له السكنى قبل الفقراء إنما شرطت له غلة سنة، فليس عليه شيء من العمارة؛ لأن العمارة لا تفيد إلا في السنين المستقبلة، فمنفعتها لا تصل إلى صاحب السنة، وكذلك إذا شرط له غلة سنين، فلا شيء عليه من العمارة، وأما المشروط له الغلة في ثلث سنين يؤخذ بالعمارة؛ لأن منفعة العمارة تعود إليه.
قال: ويجوز أن يقال في المشروط له غلة سنين إذا حدث صورتين في الوقف يؤمر بعمارة قليلة مقدار ما تبقى الدار الموقوفة إلى السنة الثانية نحو تطيين الحائط الذي أخذ في الخراب قدر ما يمنع السقوط في السنة الثانية ونحو سدر ما والسطوح والحيطان قدر ما يمنع الخراب في السنة الثانية، وإذا خرب أرض الوقف، وأراد القيم أن يبيع بعضًا منها ليرم الباقي بثمن ما باع ليس له ذلك؛ لأنا لو أطلقنا ذلك له أدى إلى أن يبطل الوقف كله، فإنه كلما خرب شيء منها باع بعض الباقي وعمر الباقي إلى أن لا يبقى الوقف، وليس بيع بعض الوقف كبيع بعضه وكبيع نخلة في أرض الوقف قد سقطت؛ لأن التربة أصل في الوقف، ولا يجوز إبطال أحد الأصلين لأجل الأصل الآخر، فأما البناء والنخل منع سبب الاتصال، فإذا سقط سقوطًا لا يمكن إعادته إليه صار منقولًا وزالت الوقفية إلى بدله، فإن باع عن عينه فاحلنا الوقفية إلى بدله.
فإن باع القيم شيئًا من البناء لم ينهدم ليهدم او نخلة حية لتقطع فالبيع باطل؛ لأنه ما دام متصلًا بالأصل فالوقفية ثابته له بحكم الاتصال، فإن هدم المشتري البناء أو حرق النخل ينبغي للقاضي أن يخرج القيم عن هذا الوقف؛ لأنه صار خائنًا، ولا ينبغي للقاضي أن يأتمن الخائن بل سبيله أن يعزله ثم القاضي إن شاء ضمن له قيمة ذلك البائع وإن شاء ضمن المشتري؛ لأن كل واحد منهما متعد في استهلاك ما استهلك فيضمن كل واحد منهما، فإن ضمن البائع نفذ بيعه، وإن ضمن المشتري بطل بيعه، وهذا عرف في كتاب الغصب.

.نوع منه: يرجع إلى العقود:

وإذا وقف داره على الفقراء فالقيم يؤاجرها؛ لأنه استغلال الوقف ولابد للوقف منه، ويبدأ من غلتها بعمارتها وما فضل يصرف إلى الفقراء، وليس للقيم أن يسكن فيها أحدًا بغير أجر؛ لأنه إتلاف منافع الوقف بغير عوض، وإن مات القيم بعد ما أجر لا تبطل الإجارة، وإن كان الواقف هو الذي أجر ثم مات ففيه قياس واستحسان، القياس أن تبطل الإجارة وبه أخذ أبو بكر الإسكاف؛ لأن الواقف بمنزلة المالك ليس لأحد حجره ومنعه، والمالك لو أجره ومات انتقضت الإجارة، وفي الاستحسان لا تنقض الإجارة؛ لأنه أجرها لغيره وهو الفقراء كالوكيل والقيم إذا أخذ ثم مات، وهذا لأن الإجارة إنما تنقض بموت المالك؛ لأن الملك بالموت ينتقل إلى الوارث، فلو لم يبطل حصل استيفاء المنافع على ملك غير الأجر، وإنه لا يجوز، وهذا المعنى معدوم هاهنا بهذا الطريق لم تنتقض الإجارة بموت الوكيل ولم تنتقض بموت الموكل.
وبهذا الطريق قلنا: الوصي إذا أجر دار اليتيم ومات الوصي لا تنقض الإجارة. ولو مات الصبي تنتقض، ولم يذكر القياس والاستحسان في الوكيل بالاستئجار إذا مات؛ لأن الوكيل بالاستئجار حاله كحال الوكيل بشراء العين؛ لأن المنافع لها حكم الأعيان؛ فيصير الموكل كأنه يملك من جهة الوكيل فيكون للوكيل حكم المالك، فأما الوكيل بالإجارة فليس له حكم المالك؛ لأن المنافع إنما تتولد من دار هي للموكل فكان على الوكيل في العقد لا غير، وقد فرغ منه.
في (واقعات الناطفي) القاضي إذا أجر الدار الموقوفة ثم عزل قبل انقضاء المدة لا تبطل الإجارة؛ لأنه بمنزلة الوكيل عن الفقراء. وفيه أيضًا دار موقوفة أجرها الوصي مدة معلومة ثم مات بعض الموقوف عليهم قبل تمام المدة لا تبطل الإجارة، فالإجارة لا تبطل بموت الموقوف عليه؛ لأنه ليس بمالك الرقبة، إنما حقهم في الغلة ثم ما وجب من الغلة إن مات هذا الميت تصرف إلى ورثته، وما وجب بعد موته فهو لمن بقي. وكذا لو مات بعضهم بعد موت الأول ثم، فهو على هذا القياس وسيأتي تمام ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولا تجوز الإجارة الطويلة على الوقف، ولو احتيج إليها فالوجه في ذلك أن يعقدوا عقودًا مترادفة كل عقد على سنة فيكتب استأجر فلان بن فلان كذا بثلاثين عقدا كل عقد على سنة فيكون العقد الأول لازمًا لأنه ناجز، ويكون العقد الثاني غير لازم لأنه مضاف.
وإن أجر متولي الوقف دارًا موقوفة أو أرضًا موقوفة أكثر من سنة، فإن كان الواقف شرط أن لا يؤاجر أكثر من سنة والناس لا يرغبون في استئجارها سنة وكانت إجارتها أكثر من سنة أدر على الوقف وأنفع لا يجوز إجارته أكثر من سنة؛ لأن شرط الواقف مراعى، فإن كان قد شرط أن يؤاجر أكثر من سنة إلا إذا كان أنفع للفقراء فحينئذ تجوز إجارته أكثر من سنة إذا رأى ذلك خيرًا للفقراء، وإن لم يشترط في الوقف أن لا يؤاجر أكثر من سنة، روي عن الفقيه أبي جعفر أنه كان يقول في الدور: لا تؤاجر أكثر من سنة، وهذا لأن المدة إذا طالت أدت إلى إبطال الوقف عسى أنه متى تصرف فيه بتصرف الملاك على طول الزمان، وكل من لقيه يظن أنه متصرف في ملكه، فمتى أنكر المستأجر الوقف وادعى الملك فهؤلاء الذين لقوه يتصرف ويشهدون له بالملك.
وأما في الأرض فإن كانت الأرض تزرع في كل سنة مرة فكذلك، وإن كانت تزرع في كل سنتين مرة أو في كل سنين مرة، فيزرع في كل سنة طائفة منها، فينبغي أن يشترط في المدة ذلك القدر الذي يتمكن به المستأجر من زراعة الكل على العادة؛ لأنه لو آجرها سنة والحالة هذه المستأجر يزرع كل الأرض، فيؤدي إلى تخريب الأرض.
وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو جعفر البخاري يجيز في الضياع ثلاث سنين؛ لأن مصلحة الوقف في ذلك؛ لأن المستأجر لا يرغب في أقل من ذلك، وكان لا يجيز في غير الضياع أكثر من سنة واحدة، وكان الفقيه أبو الليث يجيز ذلك في ثلاث سنين في الضياع والدار وغيرها.
قال الصدر الشهيد في (واقعاته): المختار أن يفتي في الضياع الجواز في ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز، وهذا أمر يختلف باختلاف الموضع واختلاف الزمان، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: لا ينبغي للمتولي أن يؤاجر أكثر من ثلاث سنين، ولو فعل جازت الإجارة وصحت، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحيلة التي ذكرناها في الإجارة الطويلة.
رجل له دار فيها موضع مقدار بيت هو وقف لا يصل إلى الموقوف عليه شيء من غلته، فأراد صاحب الدار أن يستأجره مدة طويلة، فإن (كان) لهذا الموضع سلك إلى الطريق الأعظم لا يجوز لأنه لو جاز يندرس الوقف، وإن (لم) يكن لهذا الموضع سلك إلى الطريق الأعظم (فإنه يجوز).
إذا استأجر أرض وقف ثلاث سنين بأجرة معلومة، هي أجر المثل حتى جازت الإجارة فرخصت أجرتها لا تفسخ الإجارة، وإن ازداد أجر مثلها بعد مضي بعض المدة على رواية (فتاوى سمرقند) بأن لا يفسخ العقد، وعلى رواية (شرح الطحاوي) يفسخ، ويجدد العقد، وإلى وقت الفسخ يجب المسمى لما مضى، ولو كانت الأرض بحال لا يمكن فسخ الإجارة فيها بأن كان فيها زرع لم يستحصد بعد قال: وقت زيادته يجب المسمى بقدره وبعد الزيادة إلى تمام السنة يجب أجر سنة وزيادة الأجر يقيم إذا نهاه عند الكل.
هذه الجملة في مزارعه (شرح الطحاوي) حانوت وقف عمارته لآخر، أبى صاحب الوقف أن يؤجره بأجر مثله فهذا على وجهين، أما إن كانت العمارة لو رفعت يستأجر بأكثر مما يستأجر هو وفي هذا الوجه كلف رفع العمارة ويؤاجر من غيره، لأن النقصان عن أجر المثل من غير ضرورة لا يجوز، وأما إن كانت العمارة إذا رفعت لا يستأجر بأكثر مما يستأجر هو وفي هذا الوجه لا يكلف رفع العمارة ويبقى سنة في يده بذلك الأجر؛ لأن فيه ضرورة.
في (فتاوى أبي الليث) في وقف الخصاف: إذا أجر الوقف إجارة طويلة إن كان يخاف على رقبتها التلف بسبب هذه الإجارة، فللحاكم أن يبطلها، وكذلك أجرها من رجل يخاف على رقبتها من المستأجر ينبغي للحاكم أن يبطل الإجارة.
في (فتاوى أهل سمرقند) خان أو رباط سبيل، أراد أن يخرب يؤاجر وينفق عليه فإذا صار معمورًا لا يؤاجر؛ لأنه لو لم يؤاجر يندرس فيه.
وفيه أيضًا: قيم على عمارة وقف استأجر أجيرًا بدرهم ودانق، وأجر مثله درهم، فاستعمله في عمارة الوقف ونقد الأجرة من مال الوقف يضمن جميع ما نقد لأن الاجارة وقعت له.
متولي الوقف إذا أسكن رجلًا بغير أجر ذكر هلال أنه لا شيء على الساكن، وعامة المتأخرين من المشايخ أن عليه أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن، صيانة للوقف وعليه الفتوى. وكذلك قالوا فيمن سكن دار الوقف بغير أمر القيم وبغير أمر الواقف كان عليه أجر المثل بالغًا ما بلغ، وكذا قالوا في أهل الجماعة: إذا رمموا الوقف حتى لم يصح أو سكنه المرممون يجب أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن.
وكذلك قالوا في متولي مسجد باع منزلًا موقوفا على المسجد، فسكنه المشتري ثم عزل القاضي هذا المتولي وولى غيره فادعى هذا الثاني على المشتري المنزل أن البيع باطل وأبطل القاضي البيع وسلم إلى المتولي الثاني، فعلى المشتري أجر مثل هذا المنزل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن.
وإذا أجر القيم الدار بأقل من أجر المثل قدر ما لا يتغابن الناس فيه حتى لم تجز الإجارة لو سكنه المستأجر كان عليه أجر المثل بالغًا ما بلغ على ما اختاره المتأخرون من المشايخ، وكذلك إذا أجره إجارة فاسدة، إذا أجر القيم دار الوقف من نفسه لا يجوز، كذا ذكر هلال في (وقفه)، وكذا (لو) أجره من عبده أو مكاتبه لا يجوز كما لو أجره من نفسه على قياس الوكيل إذا أجر من نفسه؛ لأن كل واحد منهما يتصرف بتفويض من جهة غيره. وقيل: ينبغي أن يكون هذا على قياس الوصي إذا باع مال الصبي من نفسه، إن كان فيه منفعة للوقف يجوز عند أبي حنيفة.
ولو أجر من ابنه أو أبيه، هو على الاختلاف في الوكيل عند أبي حنيفة لا يجوز، وعندها يجوز، ومن مشايخنا من قال هنا: يجوز وقاسه على المضارب إذا أجر من هؤلاء، فإنه يجوز بلا خلاف، وكذلك الوصي؛ لأنهما عاما التصرف بخلاف الوكيل. ومن مشايخنا من قال: لو فرق إنسان بين المضارب والوصي وبين والي الوقف لأبي حنيفة جاز، فإن والي الوقف ليس بعام الولاية، وإن كان وصيًا في الوقف، ألا ترى أنه لا يتجاوز أمر الواقف وشرطه؟
إذا أجر القيم الدار الموقوفة بعرض من العروض جاز عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز إلا بالدارهم والدنانير، وذكر هذه المسألة في الإجارات، وأجاب بالجواز من غير ذكر الاختلاف، والمتأخرون من مشايخنا قالوا: إنما لم يذكر محمد رحمه الله الخلاف؛ لأنه لم يكن في الأجرة تعارف في زمنهم، وذكر هلال الخلاف؛ لأنه كان الأجر تعامل كما في الثمن. قال الفقيه أبو جعفر: وفي زماننا في الأجر تعامل كما في الثمن، وبعض مشايخنا قالوا: إنما يجوز في الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله ما تعارفه الناس أجرة وثمنًا في الاجارات والبياعات مثل الحنطة والشعير، فأما العبيد فلا يجوز بالإجماع.
والأب والوصي إذا أجر دار اليتيم بعرض يجوز بلا خلاف؛ لأنهما يملكان شراء العرض له، فأما قيم الوقف فشراؤه العرض على الوقف لا يجوز فكان كالوكيل، ثم إذا جاز إجارة الوقف بالعرض على قول من قال بالجواز فالقيم يبيع العرض الذي هو أجره ويجعل في سبيل الوقف.
إذا أجر القيم الوقف وشرط المرمة على المستأجر بطلت الإجارة؛ لأن المرمة مجهولة إلا أن يسمي دراهم معلومة ويأمره بأن يصرفها في المرمة، وإذا كان الوقف على معينين فأجر القيم الوقف من الموقوف عليهم جاز؛ لأنه لا حق لهم في الرقبة إنما حقهم في الغلة، فصار في حق الرقبة كالأجانب إلا أنه يسقط حصة المستأجر من الأجر؛ لأنه لو أخذ منه استرد ثانيًا فلا يفيد الأخذ.
والموقوف عليهم لو أرادوا أن يؤاجروا لا يجوز لما ذكرنا أنه لا حق لهم في الرقبة ولا ملك قال الفقيه أبو جعفر: إذا كان الأجر كله له بأن كان الواقف لا يحتاج إلى العمارة كالحوانيت والدور وليس معه شريك في الوقف حينئذ جازت الإجارة، وأما في الأرض إن كان الواقف شرط تقديم العشر والخراج وسائر المؤن وما فضل فللموقوف عليهم فليس لهم إجارته؛ لأن فيه إبطال (لشرط) الواقف البداية بالخراج والمؤن.
بيانه: أن إجارة الموقوف عليه إنما تجوز على معنى إجارته ملك نفسه لا على اعتبار إجارته للوقف؛ لأنه ليس بمتول للوقف، وإذا كان جواز إجارته على اعتبار إجارته ملك نفسه لنفسه كان الأجر له ليس فيه خراج ولا شيء فهو على معنى قولنا: إن فيه إبطال شرط الواقف، وأما إذا لم يشترط بداية الخراج والمؤن يجب أن تجوز إجارته ويكون الخراج والمؤنة عليه، وهو نظير ما روي عن أبي يوسف في أرض الوقف إذا كان الموقوف عليهم اثنين أو ثلاثة فتقاسموا وأخذ كل واحد منهم أرضًا يزرعها بنفسه قال أبو يوسف: إن كانت الأرض عشرية جاز منها ما يأتهم، وإن كانت الأرض خراجية لا يجوز قال: لأن العشر صدقة، وما وقف عليهم كالصدقة عليهم، فصارت الجهة في جميع الغلة واحدة فأشبه سكنى الدار.
إذا كان الموقوف عليهم نفرًا فبدالهم أن يقتسموا وأن يسكن كل واحد منهم ناحية منها على سبيل التهايؤ إذ ليس فيه تعين شرط إذ ليس سبيل العشر أن يبدأ كما يبدأ بالخراج والمؤن، وأما في الأرض الخراجية، فإن عادة الواقفين شرطهم بداية الخراج من الغلات، ونحن لو أخرنا التهايؤ لم يكن الخراج في الغلة، بل يكون في ذمة الموقوف عليهم إذ (الحال) صورة التهايؤ، وأن يخص كل واحد منهم بما يخصه، ولما صار بالمنفعة مختصًا كان المالك، فيكون الخراج في ذمته كالمالك، فيكون فيه تعيين شرط الواقف،؛ لأن الواقف شرط أن يكون الخراج في الغلة.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: وقد احتال بعض الصكاكين في زماننا في الصكوك في إجارة الوقف لما كان الفتوى على أن إجارة الوقف لا تجوز في السنين الكثيرة فذكروا في الصك أن الواقف وكل فلان بإجارة هذه الضيعة من فلان كل سنة بكذا وهي ما أخرجه من الوكالة فهو وكيل. وأرادوا بذلك بقاء الوقف في يد المستأجر أكثر من سنة. قال الفقيه أبو جعفر: إلا أنا نبطل هذه الوكالة في الوقف، وإن كان القياس تجويزه تحريًا بإصلاح الوقف كما تبطل الإجارة.
وقد اختلف نصير بن يحيى ومحمد بن سلمة في الوكالة بهذه الصفة قال نصير: يجوز، وقال محمد بن سلمة: لا يجوز، قال الفقيه أبو جعفر: إنما اختلفا لاختلافهما في معنى قولهما: مهما عزلتك فأنت وكيلي، قال محمد بن سلمة: معناه كلما عزلتك فأنت وكيلي بالوكالة السابقة، وهذا مخالف للشريعة؛ لأنهما قصدا أن لا يرد على هذه الوكالة العزل، ومن حكم الشرع أن الوكالة يرد عليها العزل. وقال نصير معناه: كلما عزلتك فأنت وكيلي وكالة مشايعه، ولو صرح بهذا يصح؛ لأن الوكالة يصح تعليقها بالشروط، فيصح تعليقها بشرط العزل قال الفقيه أبو جعفر: ونحن نبطل هذه الوكالة في الوقف؛ لأنه أصلح للوقف.
استأجر أرضًا موقوفة وبنى فيها حانوتًا وسكنها، فأراد غيره أن يزيد في الغلة ويخرجه من الحانوت ينظر إن آجره مشاهرة، فإذا جاء رأس الشهر كان للقيم فسخ الإجارة إذا كانت مشاهرة ينعقد رأس كل شهر، فبعد ذلك ينظر إن كان رفع البناء لا يضر بالوقف رفعه إن شاء؛ لأنه ملكه، وإن كان رفع البناء يضر بالوقف، فبعد ذلك المسئلة على وجهين: إن كان المستأجر يرضى أن يتملك القيم بناء الوقف بقيمته مثبتا أو منزوعًا أيهما كان أقل يملك القيم ذلك، وإن كان لا يرضى لا يتملك؛ لأن تملك ماله بغير رضاه لا يجوز فيبقى إلى أن يتخلص ملكه.
في (فتاوى أبي الليث) في (فتاوى الفضلي): فقير يسكن وقف الفقراء بأجر فترك له بحساب الفقراء ما وجب عليه من الأجر يجوز، فالرواية محفوظة عن علمائنا أن من له حق في مال بيت المال إذا ترك عليه خراج أرضه لمكان حقه في بيت المال جاز، هكذا قال في (فتاوى أبي الليث).
قيم وقف أجر دار الوقف فله أن يحتال بالغلة على مديون المستأجر إذا كان مليئًا، واذا كان أخذ كفيلًا فذاك أولى؛ لانه إذا أخذ كفيلًا فكان المطالب بالأجر اثنان.
في آخر إجارات (فتاوى أبي الليث): إذا باع الأشجار التي في أرض الوقف ثم أجر منه الأرض، فإن باع الأشجار بعروقها دون الأرض يجوز إذا لم تكن الإجارة طويلة؛ لأن الأرض لا تكون مشغولةً بملك الغير فيصح التسليم، وإن باع الأشجار من وجه الأرض لا تجوز إجارة الأرض؛ لأن الأرض مشغولة بملك الغير وهو عروق الأشجار فلا يصح التسليم، وإن كان قد وقع الأشجار منه معاملة سنة أو سنتين أو ما أشبه ذلك، ثم أجر الأرض منه بأجر المثل، فعلى قول أبي حنيفة لا تجوز إجارة الأرض عنده للعاملة غير الجائزة فتبقى الأرض مشغولةً بحق الأجر فلا تجوز الإجارة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المعاملة جائزة فجازت الإجارة والاحتياط: أن يبيع الأشجار بعروقها ثم يؤاجر الأرض ليكون متفقًا عليه.
وإذا أراد أن يستأجر أجراء ليعملوا في أرض الوقف جاز؛ لأن فيه منفعة راجعة إلى الوقف، مزارعة يجوز إذا لم يكن فيه محاباه راجعة إلى الوقف قدر ما لا يتغابن الناس فيها؛ لأنه إن كان البذر من قبل القيم فهو مستأجر العامل ليعمل في الوقف، وإن كان البذر من قبل العامل فقد أجر الأرض منه ببعض الخارج، وكذلك لو دفع ما فيها من النخيل معاملة يجوز، فإن مات القيم قبل انقضاء مدة المزارعة والمعاملة، وإن مات المزارع والمعامل، فإن المزارعة والمعاملة تبطلان.
وإن دفع القيم أرض الوقف مزارعة سنين معلومة فهو جائز، إذا كان ذلك أنفع وأصلح في حق الفقراء جوز المزارعة سنين معلومة من غير التقدير بالثلاث، والمعنى الذي لأجله استحسن المشايخ أن لا تجوز الإجارة الطويلة على الوقف هو أن لا يؤدي إلى إبطال الوقف، عسى لا يتأتى في المزارعة يعرف بالتأمل إن شاء الله تعالى.
وإذا دفع أرض الوقف مزارعة أو دفع نخيل الوقف معاملة ولا حظّ فيه للواقف لا يجوز على الوقف ويصير غاصبًا الأرض، فإن سلمت الأرض من النقصان فلا ضمان، وإن نقصت فالضمان واجب إن شاء على الآخذ ولا شيء للموقوف عليهم من الخارج من الأرض، وأما الثمار فهي للموقوف عليهم؛لأنها تخرج من النخيل ولا شيء للمدفوع إليه من الثمار، إنما حقه في آخر عمله على الدافع في ماله خاصة ولا يرجع به على أحد ذكره هلال في (وقفه).
في (فتاوى أهل سمرقند) أرض وقف بدرعم وهي ناحية من نواحي سمرقند، استأجره رجل من حاكم درعم بدراهم معلومة وزرعها، فلما حصلت الغلة طلب المتولي الحصة من الغلة كما جرى العرف بالمزارعة بدرعم على النصف أو على الثلث، فقال الرجل عليَّ الأجر، كان للمتولي أن يأخذ الحصة؛ لأن تولية القاضي لهذا المتولي إن كان قبل تقليد الحاكم ثم دخل ذلك تحت تقليده إن كان بعد تقليده خرج عن ولاية تلك الأرض فلم يصح إجارته، فإذا زرعها وقد جرى العرف بالمزارعة على النصف أو على الثلث صار كأن المتولي دفعها إليه مزارعة على ذلك.
في (فتاوى أبي الليث): وقف ضيعة له على بنيه، فأراد أحدهم قسمتها ليدفع نصيبه مزارعة، قال: قسمة الوقف لا تجوز من أحد، وليس لأرباب الوقف أن يعقدوا على الوقف عقد مزارعه، وإنما ذلك للقيم.
قال: أرض الوقف إذا كانت عشرية دفعها القيم مزارعة ومعاملة فعشر جميع الخارج في نصيب الدافع، وهذا على قول أبي حنيفة، فإن عنده في الإجارة بالدراهم العشر على الأجر كالخراج، وعندها: يجب في الخارج فكذلك في المزارعة؛ لأنه إن كان البذر من قبل رب الأرض، فهو مستأجر للعامل، فالعشر كله عليه، وإن كان البذر من قبل الزارع فالقيم يؤاجر الأرض فكان العشر عليه، وكان ينبغي أن لايجب العشر في أرض الوقف في الحاصل على الفقراء إنما وجب؛ لأن الآخذ مختلف؛ لأن حق أخذ العشر للسلطان، وله فيه حق العمالة، وإنما الوقف، فالقيم هو الذي يتصرف فيه. وهو نظير المال المنذور بالتصدق بها إذا حال الحول عليها يجب الزكاة فيها، فيؤدي صاحب المال الخمسة زكاة ويتصدق بالباقي، وإن كان المصرف في كلا الحقين واحدًا.
وإذا كانت الدار موقوفة على قوم أحدهما القيم فمات بعضهم قد ذكرنا قبل هذان الإجارة لا تنتقض بموت الموقوف عليه وذكرنا أيضًا أن ما وجب من الأجر قبل موت من مات منهم، فذلك ميراث لورثته وما وجب بعد موته فهو كله للباقين، فإن عجلت الأجرة واقتسمها الموقوف عليهم ثم مات أحدهم فالقياس أن تنقض القسمة ويكون للذي مات حصته من الأجرة مقدار ما عاش؛ لأن المنفعة التي تحدث بعد موته لا يتظهر ملكه ولكنا نستحسن، ولا ينقض القسمة؛ لأن القسمة قد صحت ووقع الملك لكل واحد منهم في نصيبه، فما حدث من السبب المغير في القسمة لا يقدح في القسمة الماضية كرجل مات وترك ألف درهم وعليه لرجل ألف درهم ولرجل ألفان فاقتسما الألف أثلاثًا ثم إن صاحب الألف أبرأ الميت لا تبطل القسمة كذا هنا.
قال: وكذلك على هذا الشرط تعجيل الأجرة؛ لأن الأجرة كما تملك بالتعجيل تملك باشتراط التعجيل.
قال: إذا أجر الدار الوقف سنة بمائة درهم والموقوف عليهم ثلاثة نفر ثم مات أحدهم بعد مضي ثلث (السنة ثم مات الثاني بعد مضي ثلث) آخر من السنة وبقي الثالث، فإن الثلث الأول من الأجرة بين ورثة الميت الأول وبين ورثة الميت الثاني وبين الباقي أثلاثًا، والثلث الثاني بين ورثة الثاني والباقي نصفان والثلث الثالث كله للباقي، فتخرج المسئلة من ثمانية عشر، قال هلال في (وقفه): إذا احتاجت الصدقة إلى العمارة وليس في يد القيم ما يعمرها، فليس له أن يستدين عليها،؛ لأن الدين لا يجب ابتداء في الذمة وليس للوقف والفقراء.، وإن كان لهم ذمة إلا أن لكثرتهم لا يتصور مطالبتهم فلا يثبت الدين باستدانة القيم إلا عليه لا يملك قضاؤه من غلة هي للفقراء، وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أن القياس هذا، لكن يترك القياس فيما فيه ضرورة نحو أن يكون في أرض الوقف زرع يأكله الجراد ويحتاج القيم إلى النفقة بجميع الزروع أو طالبه السلطان بالخراج جاز له الاستدانة؛ لأن القياس يترك بالضرورة. قال: والأحوط في هذه الضرورات أن يستدين بأمر الحاكم؛ لأن ولاية الحكم أعم في مصالح المسلمين من ولايته، فيكون أنفى لشبهة عدم ثبوت الدين، ألا (أن) يكون بعيدًا من الحاكم ولا يمكنه الحضور، فلا بأس بأن يستدين بنفسه. وهذا إذا لم تكن السنة غلة، فأما إذا كانت يصرف القيم الغلة على المساكين ولم يمسك للخراج شيئًا، فإنه يضمن حصة الخراج؛ لأن قدر الخراج وما يحتاج إليه الوقف من العمارة والمؤنة مستثنى من حق الفقراء، فإذا دفع القيم ذلك ضمن، وهذا الذي روي عن الفقيه أبي جعفر مشكل؛ لأنه جمع بين أكل الجراد الزرع وبين الخراج ويتصور الاستدانة في أكل الجراد الزرع مال الفقراء، وهذا الدين إنما يستدان لحاجتهم فأمكن إيجاب الدين في مالهم، فأما في باب الخراج فلا يتصور؛ لأنه إن كان في الأرض غلة فلا ضرورة إلى الاستدانة؛ لأن الغلة تباع ويؤدى منه الخراج، وإن لم يكن في الأرض غلة فليس هنا إلا الرقبة، الوقف ليس للفقراء ولا يستقيم إيجاب دين يحتاج إليه الفقراء في مال ليس لهم، فهذا الفصل مشكل من هذا الوجه إلا أن يكون تصوير المسألة فيما إذا كان في الأرض غلة وكان معه متعذرًا للحال وقد طولب بالخراج ثم ما روي عن الفقيه أبي جعفر في الخروج يدل على فضل العمارة أن الوقف إذا كان محتاجًا إلى العمارة وصرف القيم الغلة على الفقراء ولم يمسك للعمارة شيئًا ينبغي أن يضمن. وإذا لم يكن للوقف غلة وقد اشتدت حاجة الوقف إلى العمارة وخيف عليه ضرر بين وقد تحقت الضرورة كما في الزرع بأكل الجراد، وكما في الخراج إذا طولب به، قالوا: وليس قيم الوقف في الاستدانة على الوقف كالوصي في الاستدانة على القيم؛ لأن القيم له ذمة صحيحة وهو ملوم فيتصور مطالبته، ألا ترى أن للوصي أن يشتري لليتيم شيئًا نسيئة من غير ضرورة.
وفي (فتاوى أبي الليث) قيم وقف طلب منه الجنايات والخراج وليس في يده من مال الوقف شيء، فإن أراد أن يستدين، فهذا على وجهين: إن أمره الواقف بالاستدانة فله ذلك، وإن لم يأمره بالاستدانة فقال: اختلف المشايخ فيه قال الصدر الشهيد: والمختار ما قاله الفقيه أبو الليث إنه إذا لم يكن من الاستدانة بد يرفع الأمر إلى القاضي حتى يأمره بالاستدانة ثم يرجع في الغلة؛ لأن للقاضي هذه الولاية.
وفي (واقعات الناطفي) المتولي إذا أراد أن يستدين على الوقف ليجعل ذلك في ثمن البذر إن أراد ذلك بأمر القاضي فله ذلك بلا خلاف؛ لأن القاضي يملك الاستدانة على الوقف فيملك المتولي ذلك أيضًا بإذن القاضي، وإن أراد ذلك بغير أمر القاضي ففيه روايتان.
متولي الوقف إذا رهن الوقف بدين لا يصح؛ لأن فيه تعطيل منافع الرهن، فإن سكن المرتهن فيه فعليه أجر المثل بالغًا ما بلغ سواء كان معدًا للاستغلال أو لم يكن نظرًا للوقف. وقد ذكرنا جنس هذه المسألة فيما تقدم.
في (فتاوى أبي الليث): أرض موقوفة في يدي أكار وكان فيه قطن فسرق القطن فوجده الأكار في منزل رجل فأخذ صاحب المنزل وخاصمه، فقال صاحب المنزل: ضمنت لك أن أعطيك مائة من القطن أيحل للقيم أن يأخذ ذلك؟ فهذا على ثلاثه أوجه: إما أن يعلم أن صاحب المنزل يعطي خوفًا من هتك الستر، أو أن يعلم أنه سرق ذلك المقدار أو أكثر أو أقر بذلك، أو علم أنه سرق لكن مما يعطي، ففي الوجه الأول: لا يجوز له أن يأخذ؛ لأنها رشوة، وفي الوجه الثاني جاز؛ لأنه أخذ بناء عليه، وفي الوجه الثالث لا يجوز إلا مقدار ما يعلم يقينًا أنه سرق؛ لأن الدين لم يكن فإذا وقع الشك فيه لا يثبت.
وفي (فتاوى سمرقنديان): أكار تناول من مال الوقف فصالحه المتولي على شيء، فهذا على وجهين: أما إن كان الأكار غنيًا أو فقيرًا، ففي الوجه الأول: لا يجوز الحط من مال الوقف، وفي الوجه الثاني: يجوز إذا لم يكن فيه غبن ظاهر.
وفي (فتاوى أبي الليث): أرض وقف خاف عليها القيم من سلطان أو وارث أن يغلب عليها، يبيعها ويتصدق بثمنها، وكذا كل قيم خاف شيئًا من ذلك فله أن يبيع ويتصدق بالثمن. قال الصدر الشهيد: والفتوى على أن لا يبيع؛ لأن الوقف بعد ما صح بشرائطه لا يحتمل البيع.
في (فتاوى أهل سمرقند): شجرة وقف في دار وقف خربت الدار ليس للمتولي أن يبيع الشجرة ويعمر الدار لكن يكرى الدار ويعمرها ويستعين بالأجر على عمارة الدار لا بالشجرة؛ لأنه إذا باع الشجرة لا تبقى. وإذا أجر الدار نبقى كلها.
في (فتاوى الفضلي): الأشجار الموقوفة إن كانت مثمرة لم يجز بيعها إلا بعد القلع؛ لأنها بمنزلة البناء الموقوف، وبيع بناء الوقف لا يجوز قبل الهدم، ويجوز بعد الهدم، وكذا باب الوقف لا يجوز بيعه إلا بعد الرفع كذا هذا، وإن كانت الأشجار غير مثمرة جاز بيعها قبل القلع؛ لأنها بمنزلة الغلة وقد مر مسألة الشجرة قبل هذا من غير تفصيل.
وفي (فتاوى أبي الليث): قرية وقف على أرباب مسمين في يدي المتولي، باع المتولي ورق أشجار التوت جاز؛ لأنه بمنزلة الغلة، فلو أراد المشتري قطع قوائم الشجرة يمنع؛ لأنها ليست بمبيعة، ولو امتنع المتولي من بيع المشتري عن قطع القوائم كان ذلك حسابه منه.
في (فتاوى أبي الليث): متولي الوقف إذا اشترى بغلة الوقف ثوبًا ودفعه إلى المساكين لا يجوز ولكن يعطي الدراهم؛ لأن المشترى وقع للقيم بقي حق المساكين في الدراهم.
ومما يتصل بهذا الفصل: ما ذكر الخصاف في (وقفه) قال: قلت في رجل وقف وقفًا صحيحًا وجعل ولايتها إلى رجل وجعل إليه القيام بأمرها في حال حياته، وبعد وفاته (جعل) لهذا الرجل من غلة هذا الوقف في كل سنة مالًا معلومًا، لقيامه بأمر هذا الوقف فما الذي يجب على هذا الرجل القيم من العمل؟ قال: ليس ذلك على ما يتعارفه الناس من القيام عمارة الضيعة واستغلال ذلك وبيع غلاته وينفق ما يجتمع من غلاته في الوجوه التي سبلها فيه، أرأيت إن لم يباشر الرجل هذا بنفسه؟ قال: إنما يكلف من هذا ما يجوز أن يفعله مثله، ولا ينبغي أن يقصر في ذلك، وأما ما كان يفعله الوكلاء والأجراء فليس ذلك عليه، ألا ترى أنه لو جعل ذلك إلى امرأة أكان عليها ما يعمله الوكلاء؟ فإن حدث بهذا القيم علة مثل خرس أو عمى أو ذهاب عقل أو الفالج هل يكون هذا الأجر قائمًا له؟ قال: إذا دخل علة من ذلك شيء يمكنه مع ذلك الكلام والأمر والنهي والأخذ فالأجر قائم، فإن تعطل عن الحفظ والتدبير قطع عنه الأجر، قلت: فما تقول إن طعن عليه في الأمانة، فرأى الحاكم أن يدخل معه غيره في الوقف أو رأى الحاكم إخراج الوقف من يده وتسليمه إلى غيره، قال: أما الإخراج من يد هذا الرجل، فليس ينبغي أن يكون ذلك إلا لجناية ظاهرة، فإذا صح ذلك أو استحسن إخراج الوقف من يده قطع عنه ما أجرى له الواقف، وإن رأى أن يدخل معه آخر ويكون له بعض هذا المال فلا بأس بذلك، وإن كان هذا المال الذي سمى قليلًا ضيقًا فرأى الحاكم أن يجعل للرجل الذي أدخل معه رزقًا من غلة الوقف، فلا بأس بذلك.، فإن كان الواقف جعل له للقيام بأمر هذا الوقف مالًا معلومًا في كل سنة، وكان المال الذي سماه الواقف لهذا الرجل أكثر من أجر مثله على القيام به فهو جائز، ولا ينظر في هذا إلى أجر مثله، قلت: وإن كان الواقف جعل لهذا الرجل القيم في كل سنة مالًا، وجعل له أن يوكل بالقيام بأمر هذا الوقف في حياته، ويجعل لمن يوكله من هذا المال في كل سنة....... قال: هذا جائز، فإن وكل فيه وكيلًا وجعل في ذلك المال شيئًا فله إخراج الوكيل والاستبدال، فإن وكل القيم وكيلًا في حياته، أو جعله وصيه في ذلك بعد وفاته، وجعل المال الذي جُعِل له أو بعضه، ثم إن القيم الذي كان جعله الواقف جن جنونًا مطبقًا، أو ذهب عقله من أذى أو غير ذلك، قال: تبطل الوكالة التي كان جعلها إليه ويبطل المال وكذلك الوصية تبطل إلى من أوصى إليه ويبطل المال ويرجع ذلك إلى غلة الوقف، فإن جعل القيم في كل سنة مالًا ولم يشترط للقيم أن يجعل هذا المال لغيره، قال: وليس لهذا القيم أن يوصي بهذا المال ولا شيء منه إلى غيره أن يوصي بالقيام بأمر هذا الوقف.
ولو زال عقله سنة وعجز عن القيام به ثم رجع إليه عقله وصح، يعود إلى ما كان من القيام بأمر هذا الوقف، وإن صح عند الحاكم أن هذا القيم لا يصلح للقيام بأمر هذا الوقف فأخرجه وجعل مكانه آخر ثم جاء حاكم فادعى أن الحاكم الذي كان قبل ذلك، إنما أوصى عن القيام بأمر هذا الوقف حتى له القيام بذلك، فإن صح عند هذا الحاكم أنه موضع لذلك رده، وأجرى ذلك المال له من غلة هذا الوقف.
ولو أن القاضي أخرج هذا القيم بوجه من الوجوه وأقام غيره مقامه، فينبغي للقاضي أن يجري لهذا الرجل شيئًا بالمعروف ورد الباقي إلى غلة الوقف، فإن كان الواقف أراد أن يكون هذا المال جاريًا لهذا القيم، فإن أخرجه القاضي لم يبطل عنه ذلك المال ينبغي أن يشترط في وقفه أن هذا المال جار لهذا القيم أبدًا ولا يقول لقيامه بأمر الوقف، فيكون ذلك كله (له).
في (فتاوى أبي الليث): رجل وقف على مواليه وقفًا صحيحًا، ومات الواقف (والوقف) في يد القيم، وجعل له عشر غلاته في الوقف.
طاحونة في يدي رجل بالمقاطعة، لا حاجة لها إلى القيم وأصحاب الطاحونة يقضون عليها لا يجب عشر غلة الطاحونة؛ لأن بمنزلة الأجير، والأجير مستحق الأجر بإزاء العمل فلا عمل له في الطاحونة.
في (مجموع النوازل): متولي وقف بتقليد القاضي امتنع عن العمل في ذلك بنفسه ولم يرفع الأمر إلى القاضي ليعزله ويقيم غيره مقامه، هل يخرج عن كونه متوليًا؟ قال نجم الدين رحمه الله: فإن امتنع عن القاضي ما على المتغلبين زمانًا ولم يقبضه هل يأمر بذلك؟ قال نجم الدين: لا، فإن هرب بعض المتغلبين بعدما اجتمع عليه مال كثير من حق القتالة هل يضمن المتولي؟ قال نجم الدين: لا.

.الفصل الثامن: في الوقف على نفسه وما يتصل به:

إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على نفسي قال هلال: لا يجوز؛ لأن الواقف لو شرط لنفسه أن يأكل من غلته على قول أبي يوسف: يجوز، على ما مر، وليس عن محمد رواية ظاهرة في هذه الصورة، واختلف المشايخ على قوله. بعضهم قالوا: لا يجوز عنده؛ لأن عنده الإخراج عن يده والتسليم إلى متولٍ شرط، وإذا كان الوقف على نفسه كان المتولي قابضًا للواقف فكأنه لم يخرج من يده. وبعضهم قالوا على قول محمد يجوز فقد ذكر محمد في آخر كتاب الوقف إذا وقف على أمهات أولاده يجوز، والوقف على أمهات الأولاد كالوقف على نفسه. وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف يجيز أن يشترط لنفسه الأكل، فيقول: على أن آكل منها ولا يجيز الوقف على نفسه، وكان يقول: الوقف على نفسه خرج مخرج الفساد فبطل، وشرط الأكل لنفسه خرج بعد خروج الوقف على وجه الصحة، فوجه قول أبي يوسف: أن قوله أرضيَّ صدقة موقوفة وقف صحيح تام على الفقراء فبفوات معنى الصدقة في الاستثناء لا يبطل أصل الوقف كما لو قال: أرضيَّ هذه صدقة موقوفة على فلان، وجه قول هلال: أن الإنسان لا يكون متصدقًا على نفسه كما لا يكون واهبًا من نفسه؛ لأن كل واحد منهما تمليك والتمليك من نفسه لا يتصور، فذهب معنى القربة فينبغي الحبس مطلقًا، ومَاْلُه يكون محبوسًا عليه قبل الوقف، فلا معنى للاستغلال بالحبس على نفسه بخلاف الغني؛ لأن التمليك منه متصور، وفيه نوع قربة ولكن دون قربة الفقراء؛ فأما هنا فأصل التمليك لا يتصور.
وكان ينبغي على قول هلال أن يلغي ذكر نفسه ويجعل وقفًا على الفقراء كما لو قال: أرضي صدقة موقوفة على الموتى، فإنه يكون وقفًا صحيحًا على الفقراء، ويلغوا ذكر الموتى، والفرق بينهما على قول هلال أن الميت في نفسه ليس من أهل التمليك، فلغت الإضافة إليه، أما نفسه من أهل التمليك في الجملة ولكن تمليكه من نفسه لا يتصور، فمن حيث إنه أهل التمليك في الجملة اعتبرت الإضافة، ومن حيث إن تمليكه من نفسه لا يتصور لا تعتبر الإضافة، عند الوقف.
فإذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على أمهات أولادي، أو قال: على عبيدي فالوقف باطل، وهذا إنما يتأتى على قول هلال؛ لأن الوقف على أمهات أولاد والعبيد كما (لو) وقف على نفسه، ولو قال: أرضيَّ هذه صدقة موقوفة عليَّ ومن بعدي على فلان كان باطلًا، وكذلك إذا قال: صدقة موقوفة على فلان ثم من بعده عليَّ كان باطلًا على قول هلال، بخلاف ما إذا قال: أرضي صدقة موقوفة عليَّ وعلى فلان حيث يصح نصفه وهو حصة فلان؛ لأن في الفصل الأول أثبت الغلة كلها لفلان في زمان ولنفسه في زمان، وشرط الكل لنفسه في زمان مبطل الوقف، وفي هذه المسألة ما أثبت الغلة كلها لنفسه في زمان بل أثبت الحصة بين نفسه وبين فلان في الغلة في جميع الأزمان.
ولو أفرد الوقف على نفسه لا يصح ولو أفرد على غيره يصح، فإذا جمع بينهما كان بينهما وكان لكل واحد حكم نفسه. وكذلك إذا قال: صدقة موقوفة على نفسي وولدي ونسلي كان الوقف كله باطل؛ لأن حصة النسل مجهولة وهذا على قول هلال أيضًا.

.الفصل التاسع: في الوقف على ولده وولد ولده ونسله وما يتصل بذاك:

إذا وقف الرجل أرضه على ولده ومن بعده على المساكين وقفًا صحيحًا، فإنما يدخل تحت الوقف الولد الموجود يوم وجود الغلة سواء كان موجودًا يوم الوقف أو وجد بعد ذلك وهذا قول هلال. وبه أخذ مشايخ بلخ، وقال يوسف بن خالد السمتي: يدخل تحت الوقف الولد الموجود يوم الوقف، وأراد بهذا الوجود: الخلق، على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، قال: لأن الحق إنما يملكه في الوقف يوم الوقف بدلالة أن الواقف لا يقدر على الرجوع منه على قول مجيزي الوقف، ولا يملك إدخال غيرهم عليهم ويعتبر شرط يوم الوقف فصار يوم الوقف كيوم موت الموصي في الوصية. ومن أوصى لولد عبد الله، ننظر إلى ولد عبد الله يوم موت الموصي في الوصية كذلك هاهنا.
ووجه قول هلال أن الموقوف عليه لا يملك الرقبة، بل يملك الغلة، والغلة معدومة يوم الوقف والمعدوم لا يملك، وإنما يملك الموجود، فصار في حق الموقوف عليه يوم وجود الغلة كيوم موت الموصي في حق الموصى له وفي حق الواقف رقبة الوقف تزول عن ملكه يوم الوقف فروعي شرطه يوم يزول ملكه.
ولو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي من الولد، فإذا انقرضوا فعلى المساكين، فالجواب عليه كالجواب في الفصل الأول، وهو أنه ينظر إلى ولده يوم وجود الغلة؛ لأن قوله وعلى من يحدث لي من الولد شرط لو لم يذكر لكان معتبرًا، فإنه لو حدث له ولد بعد الوقف قبل الغلة يشاركهم، فإذا شرط كان الشرط تأكيدًا لمقتضاه لا تغييرًا.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد وليس له ولد، فإنه يجوز، فإذا أدركت الغلة قسمت على الفقراء، فإن أحدث له ولد بعد ذلك فلاحظ له من هذه الغلة؛ لأن أوان استحقاق هذه الغلة سبق حدوث هذا الولد، ولكن الغلة التي توجد بعد ذلك تصرف إلى هذا الولد ما بقي، فإذا لم يبق له ولد صرفت الغلة إلى الفقراء؛ لأن قوله صدقة موقوفة تكون وقفًا على الفقراء، وذكر الولد لاستثناء الغلة من الفقراء فصار كأنه قال: أرضي موقوفة على الفقراء إلا أنه إن حدث لي ولد فغلتها له ما بقي، فإن ولدت امرأته الحرة أو أم الولد الولد بعد مجيء الغلة لأقل من ستة أشهر يشركهم هذا الولد في هذه الغلة؛ لأنه كان موجودًا وقت مجي الغلة.
وإن جاءت لستة أشهر فصاعدا لم يشركهم؛ لأن استحقاقهم ثابت ظاهرًا، ووجوده في ذلك الوقت مشكوك فيه لجواز أنه حدث من بعد، فلا تثبت مزاحمته بالشك، ولو كان له أمة فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم وجدت الغلة فادعاه يثبت نسبه منه، ويكون ابنه ولا يدخل في هذه الغلة، ويدخل فيما يأتي بعد ذلك من الغلات، ولا يصدق على هذا الرجل على أن يدخل مع أولاده الذين استحقوا هذه الغلة ولد لا يعرف إلا بقوله، فإن مات الواقف ساعة جاءت الغلة فجاءت امرأته بولد ما بينها وبين سنتين من الساعة التي جاءت فيها الغلة شرك الأولاد في الغلة؛ لأن المتوفى عنها زوجها إذا جاءت بولد ما بينها وبين سنتين وقت الوفاة يثبت النسب على ما عرف في كتاب الطلاق فإن عاش بعد إدراك الغلة من الوقت ما يمكنه الوصول إلى أهله فمات فجاءت امرأته بولد ما بينها وبين سنتين من وقت إدراك الغلة لاحق لهذا الولد في هذه الغلة لعلمها بوجوده حين مجيء الغلة، ولو كان الموت قبل مجيء الغلة بيوم أو بيومين ثم جاءت بولد ما بينها و(بين) سنتين من وقت الموت كان لهذا الولد حصته، في هذه الغلة؛ لأن الموت لو كان وقت مجيء الغلة كان للولد حصته فإذا كان قبله أولى؛ لأنه أدلُّ على وجود الولد عند الغلة، وكان النسب ثابتًا فلهذا يستحق.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على ولدي الذين يسكنون البصرة، فالغلة لساكني البصرة من ولده دون غيرهم فيثبت الاستحقاق لولده بصفة أن يكون ساكن البصرة، فتعلق الاستحقاق بالولادة وسكنى البصرة جميعًا، ويعتبر ساكني البصرة يوم وجود الغلة على ما مر من ولده، ولو قال: أرضي صدقه موقوفة على ولدي العور والعميان، فالوقف لهم خاصة دون غيرهم؛ لأنه علق الاستحقاق بصفة العور وصفة العمى فيتعلق بهما. ويعتبر العور والعميان من ولده يوم الوقف لا يوم الغلة.
وكذلك إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على أصاغر ولدي، يعني ولدي الصغار، فالوقف للصغار دون الكبار، ويعتبر الاستحقاق من كان صغيرًا وقت الوقف لا وقت الغلة، وأما العور والعميان فلأن العور والعمى وصف لازم لا يزول، وقد ذكره لزيادة التعريف، فجرى مجرى اسم العلم، ولو ذكر باسم العلم بأن قال: أرضي صدقة موقوفة على فلان ولدي اختص فلان بالاستحقاق من جملة أولاده، فلو ولد بعد ذلك له ولد آخر وسماه بذلك الاسم لم يشارك الثاني الأول في الاستحقاق، فكذلك في العور والعمى. وأما الصغر، وإن كان مما يزول بالكبر ولكنه يزول زوالًا لا يعود بخلاف الفقراء وساكني البصرة؛ لأن الفقر يزول عن الإنسان ويعود، فتارة يستغني، فلم يكن الثبوت تامًا ولا الزوال. وكذلك السكنى.
فصار الحاصل أن الاستحقاق إذا كان ثابتًا بصفة لا تزول أو تزول ولكنها لا تعود بعد الزوال، يعتبر في الاستحقاق قيام تلك الصفة وقت مجي الغلة، فعلى هذا الأصل يدور جنس هذه المسائل.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على ولد فلان، وليس لفلان ولد لصلبه وله ولد الولد يريد به ولد الابن كانت لولد الابن. ولو كان لفلان ولد لصلبه وولد الولد فلا شيء لولد الولد. وكذلك هذا في ولد الواقف وولد ولده، وهذا؛ لأن اسم الولد عند الاطلاق يتناول ولد الصلب ولا يتناول ولد الولد؛ لأن المطلق من الأسامي يتناول المطلق من المسميات، وولد الانسان مطلقًا ولد لصلبه؛ لأنه يولد منه بلا واسطة، أما ولد الولد يولد منه بواسطة فكان ولدًا مقيدًا. والمقيد لا يدخل تحت المطلق إلا لدليل، ففيما إذا لم يكن له ولد لصلبه وجد دليل، وهو صيانة تصرفه؛ لأنه إذا لم يكن له ولد لصلبه لو لم يحمل على ولد الابن يلغوا تصرفه، ومثل هذا الدليل لم يوجد فيما إذا كان له ولد لصلبه.
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي انصرف إلى البطن الأول يريد به ولد صلبه ولا يشارك البطن الثاني البطن الأول يريد بالبطن الثاني ولد الابن، فما دام واحد من البطن الأول فالغلة له، وإن لم يبق واحد من ذلك البطن فالغلة للفقراء ولا يصرف إلى البطن الثاني، فإن لم يوجد البطن الأول ووجد البطن الثاني وهو ولد الابن، فالغلة للبطن الثاني ولا يشاركه من دونه من البطون، وجعل الحال في حق ما بين البطن الثاني ومن دونه من البطون كالحال في حق ما بين البطن الأول والثاني ولو عدم البطن الأول والثاني ووجد البطن الثالث والرابع ومن دونه اشترك البطن الثالث ومن دونه من البطون، وإن كثرن البطن الثالث قد فحش بعده كالبطن الرابع والخامس، ألا ترى أنك إذا نسبت إلى الأب الأعلى بذكر الوسائط، فتقول ولد ولد ولد فلان فتذكر ثلاثة أباء والثلاث جمع صحيح؟ فثلاث إلى النسبة بعيد والبعيد إذا فحش يتعلق الحكم بنفس الانتساب، كما لو أوصى لبني تميم، أو لبني هاشم، أو لأولاد أبي بكر انصرف إلى منتسبهم، ويستوي فيه من بعدت ولادته ومن قربت كذا هاهنا، فأما في البطن الثاني فالبعد غير متفاحش، ألا ترى أنك إذا نسبته إلى الأب الأعلى بذكر واسطتين؟ فتقول هذا ولد ولد فلان فلا يتعلق الحكم بنفس الانتساب؟ وكل جواب عرفته في الوقف على ولده فهو الجواب في الوقف على ولد فلان.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي اختص به البطن الأول، و(لو) لم يذكر غيره اختص به البطن الأول، فإذا ذكرهما اختصا به، لو قال: على ولدي وولد ولدي فالقياس أن يختص به البطون الثلاث كما قلنا في البطنين. وفي الاستحسان إن اشترك البطون كلها، وإن سفلوا، لما ذكرنا أن البعد إذا فحش يعتبر مجرد النسبة ويسقط اعتبار الأقرب.
وإذا وقف أرضه على ولده وليس له ولد لصلبه وله ولد الابن صرفت الغلة إلى ولد الابن، فإن وجد له ولد لصلبه بعد ذلك صرفت الغلة المستقبلة إلى الولد لصلبه؛ لأن كل غلة تدرك، فإنما ينظر إلى مستحقها وقت الإدراك، ولا ينظر إلى ما مضى لما مر، فإذا وجد وقت الإدراك من سماه الواقف، صرفت الغلة إليه سواء كان موجودًا يوم الوقف أو حدث بعده. ألا ترى أن من جعل أرضه صدقة موقوفة على ولده وليس له ولد صرفت الغلة إلى الفقراء؟ فإن حدث له بعد ذلك ولد صرفت الغلة المستقبلة إليه كذا هاهنا.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على بني وله ابنان فصاعدًا استحقا جميع الغلة، وإن حصل الإيجاب بلفظ الجمع؛ لأن في المثنى معنى الجمع من وجه يضم الواحد إلى الواحد، ألا ترى أن في باب الوصية أعطى المثنى حكم الجمع؟ وكذا في الوقف نظير الوصية، ولو لم يكن له إلا ابن واحد، كان للابن نصف الثلث والنصف الآخر للفقراء، ألا ترى أن من أوصى بثلث ماله لبني فلان وليس لفلان إلا ابن واحد كان للابن نصف الثلث؟ والثلث الآخر يكون لورثة الموصي وليس اسم الابن كاسم الولد، فإنه إذا وقف على ولده وله ولد واحد كان جميع الغلة له، ولو كان له أولاد قسمت الغلة بينهم؛ لأن الولد بصيغته اسم وجدان وبمعناه اسم جنس؛ لأن معنى الولادة يعم الجنس واحدًا كان أو جماعة فيصح صرفه إلى الواحد بصيغته وإلى الجمع بمعناه بخلاف قوله بني؛ لأنه اسم جمع بصيغته وبمعناه حتى لو قال: أرضي صدقة موقوفة على ابني وله ابن واحد كان له جميع الغلة؛ لأن الابن اسم وجدان بصيغته، فإنما أوجب الغلة للواحد.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على بني وله بنون وبنات قال هلال: هم جميعًا في الوقف سواء؛ لأن البنين والبنات عند الاجتماع تسمى بنين، وهكذا ذكر الحصاف في (وقفه)، ورواية عن أبي حنيفة وعن يوسف بن خالد السمتي فيمن أوصى بثلث ماله لبني فلان وله بنون وبنات فالثلث لهم جميعًا وهم فيه سواء، فكذا الوقف. قال هلال: وروى يعقوب عن أبي حنيفة أن ذلك للبنين دون البنات، علل فقال: ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: هذه المرأة من بني فلان؟ بعض مشايخنا على أن مسألة روايتان عن أبي حنيفة وبعضهم وفق بين الروايتين، فقال: ما روي أنه يدخل فيه البنين والبنات مجعول على ما إذا كان فلان أب قبيلة، كبني تميم، وما روى أنه لا يدخل فيه البنات، مجعول على ما إذا كانوا بني أب يحصون، وقد أشار في التعليل إلى ما قلنا، حيث قال: لا يحسن أن يقال: هذه المرأة من بني فلان، وهذا إنما يستقيم فيما إذا كانوا بني أب يحصون صح ذلك، فإنه يستقيم أن يقال: هذه المرأة من بني تميم، ونحوه. روي عن أبي يوسف في الوصي، فإنه قال: الثلث للبنين دون البنات، إلا في كل أب يحسن أن يقال هذه المرأة من بني فلان مثل فخذ أو قبيلة.
ولو قال: على بني وليس له بنون وله بنات فالغلة للفقراء ولا شيء للبنات؛ لأن اسم البنين لا يتناول البنات المفردات، وكذلك إذا قال: على بنات وله بنون فالغلة للفقراء ولا شيء للبنين، ولو كان الوقف باسم الولد دخل فيه البنون والبنات؛ لأن الولد اسم مشتق من الولادة، وهذا المعنى يوجد في الفريقين.
ولو قال: على ولدي وليس له ولد لصلبه، وإنما له ولد الولد دخل فيه ولد الابن بلا خلاف وقد مر هذا، وهل يدخل فيه ولد البنت؟ ذكر هلال أنه لا يدخل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في (السير الكبير).
وفي شروط (الخصاف) أن ولد البنت يدخل في هذا، الوقف فصار في المسألة روايتان وفي كتاب الحج على أهل المدينة لمحمد بن الحسن رحمه الله في قوله ولد الولد أنه يدخل فيه ولد الابنة عند أصحابنا رحمهم الله، وفي (مسائل علي الرازي) جمعها في الحسابيات: إذا وقف على أولاده وأولادهم دخل فيه ولد الابن وولد الابنة.
وفي (السير الكبير): إذا استأمنوا على أولادهم دخل فيه ولد الابن، وهذا؛ لأن ولد الولد حقيقة اسم لابن ولده وولده، وابنته ولده، فمن ولديه ابنته، يكون ولد ولده حقيقة بخلاف ما لو استأمنوا على أولادهم؛ لأن أولاد الرجل في الحقيقة من ولدهم هو ومن حيث الحكم من يكون منسوبًا إليه بالولادة، وذلك أولاد الابن دون أولاد البنات.
وإذا وقف على نسله دخل فيه ولد الابن وهل يدخل فيه ولد الابنة؟ ذكر هلال أن فيه روايتين عن أصحابنا، وإذا وقف على ولده ونسله وله أولاد الصلب وأولاد الأولاد، وإن بعدت ولادتهم، فأولاد الصلب يدخلون تحت اسم الولد وتحت اسم النسل، وأولاد الأولاد يدخلون تحت اسم النسل، ولواقف على ولده ونسله وليس له ولد لصلبه، وإنما له ولد الولد دخل ولد الولد في الوقف باسم الولد والنسل، فإن حدث له ولد لصلبه دخل في الوقف أيضًا باسم الولد والنسل.
ولو قال: على ولدي المخلوقين ونسلي، دخل الولد الحادث لصلبه في الاستحقاق بلفظ النسل إلى نفسه والولد الحادث من نسله، بخلاف ما إذا قال: على ولدي المخلوقين ونسلهم حيث لا يدخل في الاستحقاق ما حدث له من ولد الصلب؛ لأنه أضاف الاستحقاق في حق أولاده لصلبه إلى المخلوقين، والمعدوم لا يكون مخلوقًا، وفي حق النسل أضاف الاستحقاق إلى النسل المضاف إلى أولاده.
وكذلك إذا قال: على ولدي المخلوقين وعلى أولادهم لا يدخل في الاستحقاق من حدث له ولد لصلبه ولو قال: على ولدي المخلوقين وأولاد أولادهم ونسلهم دخل أولاد المخلوقين فيه وأولادهم أبدًا ما تناسلوا، وهذا؛ لأن قوله: أولاد أولادهم، إن كان خاصًا في أولاد الأولاد، فالنسل عام، فيدخل في الاستحقاق أولاد أولاد الأولاد بالنسل، ولو قال: على ولدي المخلوقين وأولاد أولادهم وسكت؛ لم يكن لولد ولده شيء؛ لأنه يثبت الاستحقاق لأولاده القيام ولأولاد أولادهم، فلا يكون لولد الولد شيء.
ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسلهم دخل عبد الله في الاستحقاق وزيد وعمرو وأولادهم أبدًا ما تناسلوا؛ لأنه نص على الأصول الثلاثة وعلى نسل المضاف إليهم. ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسله دخل في الاستحقاق عبد الله وزيد وعمرو ومن حصل من أولاد عمرو خاصة؛ لأنه ذكر النسل بطريق الكناية عن واحد منهم والكناية تنصرف إلى أقرب المكني ذكرًا وأقربهم هنا عمرو.
ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسلهما دخل في الاستحقاق عبد الله وزيد وعمرو ودخل أولاد زيد وعمرو؛ لأنه ذكر النسل بطريق الكناية عن اثنين، فينصرف إلى اثنين وهما عمرو وزيد، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل.
ولو قال: على ولد عبد الله وعلى ولد زيد، وليس لزيد ولد كانت الغلة كلها لولد عبد الله، وهو نظير الوصية، فإن من أوصى بثلثه لولد عبد الله ولولد زيد وليس لزيد ولد كان الثلث كله لولد عبد الله.
ولو قال: على بني فلان ثم من بعدهم على المساكين وليس لفلان إلا ابن واحد، فله نصف الغلة. ولو قال: على ولد فلان ثم من بعدهم على المساكين، وليس لفلان إلا ولد واحد، فالغلة كلها له، وقد مر جنس هذا فيما تقدم.
ولو قال: على ولدي وولد ولدي الذكور، فإنه يدخل في الاستحقاق بنوه وبنو بنيه وبنو بناته، وهذا على الرواية التي قال: ولد البنت يدخل في هذا الباب، فقد جعل قوله الذكور راجعًا إلى الولد الأول والثاني ذكرًا، ولم يجعل راجعًا إلى الولد الآخر ذكرًا، وإن كان الولد الآخر ذكرًا أقرب إلى لفظ الذكور إذ لو جعل كذلك دخل في الوقف البنون والبنات من صلبه؛ لأن البنين والبنات من ولده، ولم تدخل البنات في هذا الوقف، وإنما كان كذلك؛ لأن المقصود من ذكر الذكور تعريف المستحقين، والمستحقون الولد وولد الولد، فيرجع نعت الذكور إليهم، كأنه قال: على ولدي الذكور وعلى الذكور من ولد ولدي. ولو قال: على ولدي وأولاد الذكور من ولد ولدي كان هذا وقفًا على البنين والبنات من بنيه؛ لأن الذكور هنا مضاف إليهم والمضاف إليهم في أولاد أولادهم إلا ما دون المستحقين.
إذا قال في صحته: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبدًا على ولدي وولد ولدي وأولاد أولادهم ونسلهم أبدًا ما تناسلوا، فإنه يدخل في هذه الصدقة كل ولد كان له يوم وقف هذا الوقف، وكل ولد يحدث له بعد هذا الوقف قبل حدوث الغلة وولد الولد أبدًا، ومن مات منهم قبل حدوث الغلة سقطت حصته، ومن مات بعد ذلك استحق سهمه ويكون ذلك لورثته، والبطن الأعلى والبطن الأسفل في ذلك على السواء، إلا إذا قال في وقفه: على أن يبدأ في ذلك بالبطن الأعلى منهم، ثم بالبطن الذي يلونهم.، فإن قال على هذا الوجه، فمات البطن الأعلى وبقي ولده كانت الغلة كلها لهذا الباقي وحده دون البطن الذي يليه.
وإن قال: على أن يبدأ بالبطن الأعلى من الذين يلونهم على أن ذلك بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فجاءت الغلة والبطن الأعلى ولا أنثى معهم، أو إناث لا ذكور معهن، فذلك كله بينهم على السواء، وهذا بخلاف الوصية، فإن من أوصى بثلث ماله لولد زيد بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وكان لزيد ثلاث بنين، فالثلث بينهم يقسم عليهم، وعلى بنت لو كانت معهم، فما أصاب الابنة من الثلث يرد على ورثه الموصي؛ لأن ما يبطل من بالوصية يعود إلى التركة ويكون ميراثًا والوقف لا يكون كذلك.
وإن قال: على ولدي وولد ولدي أبدًا ما تناسلوا ولم يقل بطنًا بعد بطن، لكنه قال: كلما مات أحد كان نصيبه من هذه الغلة لولده، فالحكم قبل موت بعضهم ما ذكرنا أن الغلة تكون لجميع ولده وولد ولده ونسله بينهم بالسوية.
وإن مات بعض ولد الواقف لصلبه وترك ولدا ثم جاءت الغلة، فالغلة تقسم على عدد القوم على الولد وولد الولد، وإن سفلوا، وعلى الذي مات من ولد الصلب، فما أصاب الميت من الغلة كان ذلك لولده ويصير لولد هذا الميت سهمه الذي جعله له الواقف وسهم والده.
وهذا بخلاف الوصية.، فإن قال: أوصيت لفلان بألف درهم، وأوصيت بثلثي لقرابتي وكان الموصى له بألف من قرابته، فإنه ينظر إلى ما يصيبه من الثلث إذا كان من القرابة وما يصيبه من الألف من جملة الثلث، فيعطى الأكثر من ذلك ويعطى من وجه واحد ولا يجمع ذلك له.
ولو قال: على ولدي وولد ولدي ونسلهم وأولادهم أبدًا ما تناسلوا على أن يبدؤوا في ذلك بالبطن الأعلى ثم بالبطن الذين يلونهم إلى آخره بطنًا بعد بطن، فكلما حدث الموت على واحد منهم وترك ولدا كان نصيبه من الغلة لولده وولد ولده ونسله أبدًا ما تناسلوا على أن يقدم الأعلى، وكلما حدث الموت على واحد منهم ولم يترك ولدًا ولا ولد ولد ولا نسلًا ولا عقبًا كان نصيبه من هذه الصدقة مردودة إلى أصل هذه الصدقة، فقسمت الغلة سنين على البطن الأعلى فمات البعض بعد ذلك وترك ولدًا وولد ولد، فإن الغلة تقسم على أولاد الواقف من كان موجودًا وقت الوقف، من حدث بعد ذلك، فما أصاب الأحياء من ذلك أخذوه، وما أصاب الموتى كان لولد من مات منهم على ما شرط الواقف من تقديم البطن الأعلى اعتبارًا لشرط الواقف.
ولو لم يترك الميت من البطن الأعلى ولدًا لصلبه، وإنما ترك ولد ولد، فإن نصيب الميت من الغلة لولد ولده وهو من البطن الثالث، وكذلك إن كان أسفل من الثالث؛ لأن الواقف كذا شرط، وإن كان عدد البطن الأعلى عشرة أنفس، فمات منهم اثنان ولم يتركوا ولدا ولا ولد ولد فتنازعت الأربعة الباقون من البطن الأعلى وولد الابنين الميتين قسمت الغلة يوم يأتي على هؤلاء الأربعة وعلى الميتين الذين تركا أولادًا كان ذلك لأولادهما وسقط سهام الأربعة الموتى الذين تركا أولادًا كان ذلك لأولادهما وسقط سهام الأربعة الموتى الذين لم يتركوا أولادًا هذه المسألة وأجناسها في وقف الخصاف في باب قبل باب الوقف.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة للمساكين على أن يبدأ ولدي لصلبي فيجري غلة هذا الوقف عليهم، ثم بعدهم على أولادهم ونسلهم، فإنه تكون الغلة لولده وولد ولده على ما شرط، ثم على المساكين. وكذلك إذا قال: غلة صدقتي هذه للمساكين لا تخرج عنهم، وقال مع هذا: وعلى أن يجري غلة هذه الصدقة على قرابتي ما بقي منهم أحد، فإن غلة هذه الصدقة تكون لقرابته أبدًا، ثم من بعدهم على المساكين.
ولو قال: على أن تكون غلتها لعبد الله بن جعفر ولولد زيد أبدًا ما بقي منهم أحد، فإذا انقرضوا، فهي على المساكين، فإن الغلة تقسم على عدد ولد زيد وعلى عبد الله، فإن كان ولد زيد خمسة يقسم على ستة أسهم، وعلى هذا القياس جنس هذه المسائل في هذا الباب أيضًا.
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد وفاتي على ولدي وولد ولدي ونسلي ثم مات، فإن الوقف على ولده لصلبه لا يجوز؛ لأن الوصية للوارث لا تجوز، وعلى ولد ولده تجوز؛ لأنهم لا يرثونه ولا يكون الكل لهم ما دام ولد الصلب حيًا؛ لأنه لم يجعل الكل لهم فيقسم الغلة في كل سنة على عدد رؤوس ولد الصلب وعلى عدد رؤوس ولد الولد، فما أصاب ولد الولد فهو لهم وقف، وما أصاب ولد الصلب، فهو ميراث بين جميع الورثة حتى يشاركهم الزوج والزوجة وغيرهما؛ لأن الميراث لا يختص به بعض الورثة دون البعض، فإن مات بعض ولد الصلب، فالغلة تقسم على عدد رؤوس ولد الولد وعلى الباقي من ولد الصلب، فما أصاب الباقي من ولد الصلب يكون بين جميع ورثة الميت الأحياء والأموات، كل من كان حيًا منهم عند موت الواقف لما ذكرنا أن ولد الصلب إنما يستحق ذلك بطريق الإرث، فلا ينصرف ثبوته، بل يكون لكل من كان وارثًا عند موت الواقف، ثم من مات منهم تكون حصته لورثته، فمن كان ولد ولد الصلب للميت يستحق لوجهين ما يصيبه بالقسمة يستحقه بالوقف، وما يصيب أبوه يستحق بالإرث من جهة ابنه.

.الفصل العاشر: في الوقف على فقراء قرابته:

إذا قال: أرضي هذه صدقة على فقراء قرابتي، أو قال: على فقراء ولدي ثم من بعدهم على المساكين، فهذا الوقف صحيح والمستحق للغلة من كان فقيرا يوم مجيء الغلة عند هلال، وبه نأخذ.
ولو قال: على من افتقر من قرابتي، فهذا على من افتقر بعد الغناء، وعند محمد وقال غيره: هذا من كان فقيرًا يوم مجيء الغلة سواء كان فقيرًا من الأصل أوكان غنيًا ثم افتقر كقوله: على من احتاج من قرابتي، فهو على من كان محتاجًا من الأصل أو كان غنيًا ثم احتاج، وكقوله: على من يسكن البصرة من قرابتي يعتبر سكناه بالبصرة يوم مجيء الغلة سواء كان ساكنًا بالبصرة من الابتداء أو لم يكن ساكنًا، وإنما سكن الآن ثم من له المسكن لا غير أو كان له مسكن وخادم، فهو فقير في حق الزكاة والوقف.
وكذلك إذا كان له مع ذلك ثياب كفاف لا فضل فيها، وكذلك إذا كان مع ذلك متاع البيت ما لا غنى عنه؛ لأن هذه الأشياء من جملة ما (لا) بد منه، وإن كان له مائتا درهم أو عشرين مثقال ذهب، فلا حظ له من الوقف؛ لأنه غني، ألا ترى أنه وجب عليه الزكاة، وإن كان له فضل من متاع البيت أو الثياب، وذلك الفضل يساوي مائتي درهم فصاعدا فهو غني لا يحل له الزكاة ولا الوقف، وإن كان له مسكنان أو خادمان والمسكن الفاضل والخادم الفاضل يساوي مائتي درهم فهو غني في حق خدمة الزكاة والوقف، وإن لم يكن غنيًا في حق وجوب الزكاة، وهذا مذهب أصحابنا رحمهم الله.
وإن كان له أرض تساوي مائتي درهم وليس تخرج له ما يكفيه قال أبو يوسف: هو غني لا يعطي من الزكاة والوقف، وهو قول هلال، وقال محمد بن سلمة ومحمد بن مقاتل الرازي: هو فقير، وقال الفقيه أبو جعفر: إذا كان لا يخرج من الغلة ما يكفيه لنقصان في الأرض فهو فقير، وإن كان نقصان الغلة بقاء هذه الأرض وقصوره في القيام عليها فهو غني، فإن كان له مال غائب عنه أو كان على الناس ديون وهو لا يقدر على أخذه حل له الزكاة والوقف، وإن كان يقدر على الاستقراض، فالاستقراض له خير من متولي الزكاة والوقف ومع هذا لوصل الزكاة والوقف والحالة هذه لا يكره؛ لأنا جعلنا مال الغائب والدين الذي لا يقدر على أخذه كأن لم يكن له مال، وهو يقدر على الاستقراض فلم يستقرض وأخذ الزكاة والوقف أليس انه لا يكره كذا هنا.
والفقير الكسوب لا بأس أن يأخذ من غلة الوقف، وإن كان لا يحل له الزكاة؛ لأن باب الوقف واسع، ألا ترى أنه لا يجوز أخذ الزكاة لفقراء بني هاشم، ويجوز لهم أخذ غلة الوقف إذا سموا في الوقف، وإن كان له دين على مفلس فهو فقير، وإن كان على مليء وهو مقر به فهو غني، وإن كان منكرًا وله نية فكذلك، وإن لم يكن له نية فهو فقير.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء قرابتي وفيهم رجل فقير يوم مجيء الغلة فاستغنى قبل أن يأخذ حصته فهذه حصته؛ لأن الملك قد وجب له يوم مجيء الغلة. ألا ترى أن من مات بعد مجيء الغلة قبل أخذ نصيبه لا يبطل نصيبه، وإنما لا يبطل لما قلنا، فإن ولدت امراة من قرابته ولدًا بعد مجيء الغلة لأقل من ستة أشهر فلا حصة لهذا الولد في هذه الغلة؛ لأن الاستحقاق بصفة الفقراء مع صفة القرابة، وصفة الفقر غير ثابتة للحمل؛ لأن الفقر هو الحاجة ولا حاجة للحمل إلى شيء، وإنما يثبت له صفة الفقر بالانفصال عن الأم فهو كواحد من قرابته كان غنيًا يوم مجيء الغلة ثم افتقر بعد ذلك لا يستحق من هذه الغلة شيئًا كذا هاهنا.
ولو قال: على من كان فقيرًا من نسل فلان، وليس في نسل فلان إلا فقير واحد، فله جميع الغلة؛ لأن كلمة (من) جهة تصلح كناية عن الجماعة وعن الواحد، قال الله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك} [الأنعام: 25] ذكر الاستماع بلفظة الوحدان ثم قال: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} [الأنعام: 25] يفقهوه بخلاف ما لو قال: على فقراء بني فلان أو قال: على فقراء آل فلان، وليس فيهم إلا فقير واحد، فله نصف الغلة؛ لأنه نص على صيغة الجمع هنا وأقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في هذا الباب المثنى، فصار موجبًا لهذا الواحد نصف الغلة.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف رجل آخر أرضه على مثل ذلك وفي أولاد عمر فقراء فأي الغلتين أدركت فهي لهم، وإن أدركت إحدى الغلتين فأصاب كل واحد منهم تلك مائتا درهم فصاعدًا ثم أدركت الغلة الأخرى وعندهم ذلك فلا حقَّ لهم في الأخرى؛ لأن صفة الفقر قد بطلت قبل مجيء الغلة الأخرى، ولو أدركت الغلتان معًا كانتا لهم، وإن كان يصيب كل واحد رجل منهم من كل غلة ما يصير به غنيًا؛ لأن صفة الفقر قائمة عند الغلتين وهو نظير ما (لو) أوصى رجلان كل واحد منهما بثلث ماله لفقراء ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوقع على الرجلين بيت وماتا قبلت كل واحد منهما لفقراء ولد عمر، وإن كان كل واحد منهما يغنيهم.
كذلك لو كان الواقف رجلًا واحدًا وقد وقف وقفين أرضين في وقتين كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الوقف من رجلين إخوان الأب والأم وقفا على فقراء قرابتهما، فجاء بفقير واحد من القرابة ينظر إن كانا وقفا أرضًا مشتركًا بينهما يعطى هذا الفقير قوت واحد،؛ لأن هذا وقف واحد.
وإن وقف كل واحد أرضًا على حدة يعطى من كل واحد على حدة، والمراد من القوت في جنس هذه المسائل الكفاية، فإن كان الوقف أرضًا يعطى كفاية سنة بلا إسراف ولا تقتير؛ لأن غلة الأرض إنما يحصل بالسنة، وإن كان الوقف حانوتًا يعطى كفاية شهر،؛ لأن غلة الحانوت يحصل كل شهر، وإذا وقف على فقراء قرابته، فجاء رجل يدعي الغلة ويدعي أنه قريب الواقف، وإنه فقير كلف إقامة البينة على القرابة وعلى أنه فقير محتاج إلى هذا الوقف، وليس له أحد يلزمه نفقته، والقياس أن لا يكلف إقامة البينة على الفقر؛ لأن الأصل الفقر؛ لأنه خلق عديم المال استحسانًا.
وقلنا: يكلف إقامة البينة على ذلك؛ لأن الاستحقاق بالفقر الأصلي بالظاهر واستصحاب الحال، وإنه لا يصلح حجة للاستحقاق، ثم شرط مع إقامة البينة على الفقر إقامة البينة على أنه ليس له أحد يلزمه نفقته؛ لأنه يعتبر غنيًا ببقاء المنفق في حق حكم الوقف، وفيه كلمات كثيرة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإن أقام البينة على أنه فقير محتاج إلى هذا الوقف، وليس له أحد تلزمه نفقته أدخله القاضي في الوقف، واستحسن هلال أن لا يدخله حتى يسأل عنه في السر، قال مشايخنا: وإنه حسن، وقال أيضًا إن الخامسة على ما قلنا، ويسأل القاضي في السر أيضًا، ووافق خبر السر البينة أنه فقير، وليس له أحد تلزمه نفقته، فالقاضي لا يدخله في الوقف حتى يستحلف بالله مالك مال، وأنك فقير. قال مشايخنا: وإنه حسن أيضًا؛ لأن مال الغير لا يقف عليه غيره في الحقيقة وهو يعلم ذلك، فيستحلف عليه، وكذلك يستحلف على قول هلال بالله مالك أحد تلزمه نفقتك، وإنه حسن أيضًا، وهكذا ذكر الخصاف في وقفه.
وإن شهد شاهدان على فقره وأخبره عدلان في السر أنه غني، فخبر الغنى أولى؛ لأنه مثبت، ولأن المخبر عن الغني يعلم الآخر قال هلال: والخبر في هذا الباب والشهادة سواء؛ لأن هذا ليس بشهادة على الحقيقة بل هو خبر، وإن شهد الشهود أنا لا نعلم له أحدًا تلزمه نفقته يكتفي به ولا يكلف الشاهدان بقطع القول بأنه ليس له أحد ينفق عليه كما في الميراث إذا شهدوا أنا لا نعلم له وارثًا غيره يكتفي به ولا يكلف الشاهدان بقطع القول أنه ليس له وارث غيره.
وإذا أراد الرجل إثبات قرابة ولده وفقره في الوقف، فله ذلك إن كان صغيرًا؛ لأنه له ولاية عليهم، ووصي الأب في هذا بمنزلة الأب، فإن لم يكن لهم أب ولا وصي الأب ولهم أم أوأخ أو عم أو خال، فلهؤلاء إثبات قرابة الصغير في حجره استحسانا؛ لأن هذا محض منفعة في حق الصغير فصار كقبول الهبة، ولهؤلاء قبول الهبة على الصغير في حجره إلا أن بين قبول الهبة وبين إثبات القرابة نوع فرق، فإن غير الأب يقبل الهبة على الصغير، وإن كان الأب حيًا، ولا يثبت قرابة الصغير وفقره إذا كان الأب حيًا.
والفرق أن الهبة ربما تفوت لو انتظر مجيء الأب بأن يرجع الواهب عما أوجب أو يقوم من يجلسه، فيبطل الهبة لو انتظر حضور الأب، وهنا لو انتظر حضور الأب لا يفوت على الصغير شيء؛ لأن الأب إذا حضر يثبت قرابة الصغير وفقره في الأزمنة الماضية، فيستحق الغلات الماضية، ثم إن كانت الأم أو العم أو الأخ موضعًا لوضع الغلة في أيديهم فما قبض الصغير من الغلة يدفع إليهم ويؤمرون بالإنفاق عليه، وإن لم يكن موضعًا لذلك يوضع في يدي رجل ثقة يؤمر بالنفقة عليه.
في (النوازل): إذا وقف على فقراء قرابته، فأراد بعض الفقراء من قرابته أن يحلف البعض بأنهم أغنياء إن ادعوا عليهم دعوى صحيحة بأن ادعوا عليهم مالًا يصيرون به أغنياء كان لهم أن يحلفوهم؛ لأنهم ادعوا عليهم معنى لو أقروا بذلك يلزمهم، فإن كان القيم يمثل إليهم، فأراد هؤلاء أن يحلفوا القيم بالله ما يعلم أن هؤلاء أغنياء ليس لهم ذلك؛ لأن القيم لو أقر بذلك لم يلزم أولئك شيء، فإذا أنكروا لا يستحلف.
وإذا ثبت الرجل قرابته وفقره عند قاضى ثم جاء يطلب وقفًا آخر لا يكلف إعادة البينة على الفقر؛ لأنه ثبت فقره في وقف، ومن كان فقيرًا في وقف كان فقيرًا في كل وقف. وكذلك لو أثبت قرابته من الواقف في وقفه ثم جاء يطلب وقف أخيه لا يكلف إعادة البينة على القرابة إذا كان الثاني أخ الأول لأبيه وأمه؛ لأنه إذا كان أقرب أحد الأبوين كان قرب الأخ الآخر ضرورة. وكذلك لو جاء أخ المقضي له لأبيه وأمه لا يكلف إعادة البينة على القرابة من الواقف؛ لأن ذلك ثابت ضرورة بثبوت قرابة الأول، وكذلك لو أثبت رجل في وقف أنه من بني العباس لا يحتاج إلى إثبات نسبه في وقف آخر وكذلك على هذا سائر القرابات.
ولو أقام رجل بينة عند القاضي أن القاضي الذي كان قبله قضى بقرابته وفقره قبل هذا ثم استحقت الغلة (قبلت)، وإن طالت المدة في القياس؛ لأن الفقر قد ثبت فنحن على ذلك حتى يحدث غيره استحسنا، وقلنا: إن القاضي يسأله إعادة البينة إذا طالت المدة على أنه فقير، وهذا لأن الإنسان لا يبقى على حالة واحدة زمانًا طويلًا هذا هو الظاهر، وإنما يعتبر الفقر في كل سنة عند حدوث الغلة، فمن كان فقيرًا قبله استحق تلك الغلة، ومن افتقر بعد ذلك لا يستحق من تلك الغلة إنما يستحق من غلة أخرى.
فإذا قضى القاضي أنه فقير ثم جاء بعد ذلك بطلت الغلة وهو غني وقال إنما استغنيت بعد حدوث الغلة، وقال شركاؤه: لا، بل استغنى قبل حدوث الغلة، فالقياس أن يكون القول قوله؛ لأنا عرفنا فقره، فكان الغنى في حقه حادثًا فحال به على أقرب الأوقات، وفي الاستحسان: القول قول الشركاء ويجعل المال حكمًا على ما مضى على ما عرف في كثير من المسائل.
ولو لم يكن القاضي (قضى) بفقره، فجاء بطلت الغلة ويدعي أنه فقير وقال الشركاء: إنه غني وأرادوا استحلافه فلهم ذلك، ويحلفه القاضي بالله ها هو القوم غني عن الدخول في هذا الوقف مع فقرائهم وعن أخذ شيء من عليه، وإذا شهد الشهود على فقره، وكان ذلك بعد حدوث الغلة لم يدخل في تلك الغلة، وإنما يدخل في الغلة الثانية إلا أن يوقنوا فقره وكان الفقر قبل حدوث الغلة فحينئذ ثبت حقه في تلك الغلة.
ولو أن رجلًا أثبت فقره عند القاضي في وقف، فجاء رجل وعليه دين وأراد حبسه عند القاضي، فقال القاضي: إنك قد قضيت لفقري فلا تحبسني، فالقاضي لا يجيبه إلى ذلك؛ لأن فقر الوقف دون إعدام الدين، فإن من كان له سكن وخادم وثياب البدن يستحق الوقف، وفي الدين مثل هذا لا يكون معدمًا، ولو ثبت إعدامه في الدين، فجاء يطلب الوقف، فالقاضي لا يكلفه البينة على الفقر؛ لأن الإعدام فوق الفقر وثبوت الأعلى يغني عن إثبات الأدنى، وإذا شهد القرابة بعضهم لبعض في الوقف لا يقبل إذا شهد كل فريق لصاحبه؛ لأنهم يثبتون مالًا مشتركًا، وإن كان الشهود أغنياء شهدوا لرجل من قرابتهم بقرابته وفقره ذكر الخصاف في (وقفه) في باب الوقف على فقراء قرابته أنهم إذا لم يجروا إلى أنفسهم منفعة بشهادتهم، ولم يدفعوا عن أنفسهم بذلك مضرة قبلت شهادتهم في (ذلك) ذكر هو في باب قبل هذا الباب متصل به لو شهد رجلان من صحب قرابتهما لرجل أنه قرابة الواقف وفسروا قرابته أن ذلك جائز، فإن لم يعدل شهادتهما فرد القاضي شهادتهما، فللذي شهدا له بقرابة الواقف أن يدخل معهما فيما يصل إليهما من مال الواقف، ويشاركهما في ذلك.
ذكر هلال في (وقفه): إذا شهد رجلان أجنبيان بقرابة رجل من الواقف، وشهد قومان بفقره قبلت شهادتهما من غير تفصيل. قال هلال رحمه الله في وقفه: لو أقر رجل من القرابة أنه كان غنيًا ثم جاء يطلب الوقف. وقال: أنا فقير، وإنما افتقرت قبل حدوث الغلة لا يقبل قوله، وإن كان فقيرًا للحال؛ لأنا قد علمنا غناه ولم نعلم فقره بعد ذلك قبل حدوث الغلة مجرد قوله ولا يجعل الحال حكمًا؛ لأن تحكيم الحال عمل بنوع ظاهر، والظاهر لا يستحق به شيء.
وإن شهد الشهود أنه أتلف ماله قبل حدوث الغلة استحق الغلة، وإن قالوا:.... أو أبهم القاضي بالتلجئة لا يعطيه إذا كان لم تلجئه تصل يده إليه. وإذا كانت امرأة فقيرة ولها زوج غني لا تعطى من الوقف؛ لأن نفقتها على زوجها والزوج إذا كان فقيرًا يعطى من الوقف، وإن كانت امرأته غنية لا نفقة للزوج على المرأة، فلا يعد غنيًا إذا كان أقربه ولد كبير لا زمانة به وهو فقير، ولهذا الولد أولاد صغار فقراء، فإنه لا يعطي أولاد الولد من الوقف؛ لأن أفرض نفقتهم في مال جدهم، وأما أبوهم وهو ولد القريب لصلبه، فله حظ له في الوقف؛ لأنه لا نفقة على ابنه؛ لأنه كبير لا زمانة به. وإذا كان للرجل ابن غني وهو فقير لا يعطى من الوقف؛ لأن نفقته على ابنه.
ثم الأصل في جنس هذه المسائل إن كان من وجبت نفقته على غيره بالإجماع يعد غنيًا يعني من وجب عليه نفقته في حكم الوقف كالوالدين والمولودين، وكل من كان في وجوب نفقته اختلاف لا يعد غنيًا يعني من وجب عليه نفقته في حكم الوقف هذا هو عبارة بعض المشايخ، وعبارة بعضهم أن كل من وجب نفقته في مال إنسان وله أن يأخذ ذلك من غير قضاء ولا رضا ويقضي القاضي بالنفقة في ماله حال غيبته ومنافع الأملاك متصلة بينهما حتى لا يقبل شهادة أحدهما لصاحبه يعد غنيًا يعني المنفق في حكم الوقف، وذلك كالوالدين والمولودين والأجداد، وكل من وجب نفقته في مال غيره بفرض القاضي ولا يأخذ النفقة من ماله إلا بقضاء أو رضا، والقاضي لا يقضي بالنفقة في ماله في حال غيبته ومنافع الأملاك متميزة حتى يقبل شهادة أحدهما لصاحبه لا يعد غنيًا يعني المنفق في حق حكم الوقف، وذلك كالإخوة وسائر المحارم، على هذا الأصل تدور المسائل.

.الفصل الحادي عشر: في الرجل يقف أرضه على قرابته:

قسمت الغلة على قرابته على عدد رؤوسهم الصغير والكبير والغني والفقير فيه سواء؛ لأن اسم القرابة يتناولهم على السواء والاستحقاق بهذا الاسم، فإن جاء رجل يدعي أنه من قرابة الواقف، فإن كان الواقف حيًا فهو خصمه يثبت عليه قرابته منه؛ لأن الوقف والغلة في يده، فالمدعي يدعي عليه لنفسه حقًا فيما في يده ويمنعه عنه، فينتصب خصمًا له، وإن كان الواقف ميتًا فخصمه وصيه الذي الوقف في يده وجعله فيما عليه لما ذكرنا، ولأن القيم قائم مقام الميت بإقامة الميت إياه مقام نفسه، فينتصب خصمًا للمدعي كالميت.
وإن كان له وصيان أو أكثر فادعى على أحدهم جاز، ولا يشترط اجتماعهم ولا يكون وارث الميت خصمًا للمدعي في ذلك إلا أن يكون متوليًا، وكذلك أرباب الوقف لا يكون خصمًا للمدعي أما أرباب الوقف؛ لأنه لا ملك لهم إنما لهم مجرد الحق؛ ألا ترى أن المرتهن لا ينتصب خصمًا لمن يدعي غير الرهن، وإنما لا ينتصب؛ لأنه لا ملك له في غير الرهن، وأما الوارث فلأنه لا ملك له في عين الوقف ليس في يديه، فإن حضر القيم وجاء بشاهدين شهدا على أنه قريب هذا الواقف، فالقاضي لا يقبل شهادتهما حتى شهدا بنسب معلوم، فيشهدا أنه ابنه أو أخوه لأبيه وأمه أو لأبيه أو لأمه، والجواب في هذا نظير الجواب في فصل الميراث إذا شهد الشهود بوراثة رجل، وكذلك على هذا إذا وقف على نسله، فجاء رجل يدعي أنه من نسل الواقف، فأقام على ذلك بينة لا يقبل شهادتهم ما لم يثبتوا أنه ولده لصلبه أو ولد ابنه أو ولد ابنته أو ما أشبه ذلك، فإن فسروا القرابة، وقالوا: لا نعلم له قريبًا آخر سوى هذا القريب، فالقاضي يعطيه الغلة، وإن لم يقولوا ذلك فالقاضي يتأنى ويتلوم زمانًا، فإن طال ذلك ولم يظهر له قريب آخر قال: أستحسن أن أعطيه الغلة وآخذ منه كفيلًا، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ منه كفيل كما في الميراث، فإن قال الشهود: له قرابة غيب، فالقاضي يفرز أنصباءهم، فإن قال الشهود: لا ندري عددهم كم هم ينبغي للقاضي أن يقول لهم: احتاطوا ولا تشهدوا إلا بما تتيقنوا به فتقولوا لا نعلم له قرابة أخرى سوى كذا وكذا، وإن أقام يدعي القرابة شاهدين شهدا أن فلانا القاضي قضى أن هذا قريب الواقف، وإنه من قرابته قال هلال: ينبغي للقاضي أن يسألهما عن تفسير القرابة، فإن فسروا قرابة يستحق بها الوقف أعطاه وإلا فلا يعطيه شيئًا، وإن لم يفسر الشهود وقد ماتوا أو غابوا، فالقاضي يسأل المدعي ويستفسره القرابة، فإن ذكر قرابة لا يستحق بها الغلة لا يعطيه شيئًا، إن ذكر قرابة يستحق بها يعطيه وليس هذا بقضاء للقاضي الأول؛ لأن القاضي الأول قضى بكونه قريب الواقف فقط، ولا ينقض هذا القضاء، ولكن ليس كل قريب يستحق الوقف حتى لو قضى القاضي له بالغلة أو قضى بأنه موقوف عليه، فإن القاضي الثاني يمضية ويعطيه الغلة.
وإن لم يفسر المدعي القرابة أيضًا أو كان صبيًا قال هلال: القاضي يعطيه الغلة ويحمل قضاء القاضي الأول على الصحة وعلى أنه قضى بقرابة يستحق بها، وقاسه على مسألة ذكرها محمد رحمه الله في (الزيادات): أن (من) يدعي الميراث إذا أقام بينة عند القاضي أن قاضي بلد كذا قضى بأني وارث فلان الميت، ولم يزد الشهود على هذا، فهذا القاضي يجعله وارث الميت ويحمل قضاء القاضي الأول على الصحة كذا هنا، هذا جملة ما أورد هلال في (وقفه).
وذكر الخصاف في (وقفه) أن شهود المدعي إذا شهدوا أن قاضي بلد كذا قضى أن هذا قريب الواقف أستحسن أن أجيز هذا وأحمله على الصحة ولم يذكر سؤال الشهود ولا سؤال المدعي، قال الفقيه أبو جعفر: وعندي أنه لا يقضي له بالغلة وليس هذا مسألة (الزيادات)؛ لأن الوراثة متى تثبت يستحق بها الإرث على كل حال، فأما القرابة متى تثبت قد يستحق بها الغلة وقد لا يستحق فلا تكون القرابة نظير الوراثة.
رجل أثبت قرابته عند القاضي وقضى القاضي بها ثم جاء آخر وادعى أنه قريب الواقف، فلم يجد الوصي، فأراد أن يخاصم المقضي له الأول، فإن كان الأول قد أخذ شيئًا من الغلة فهو خصم للثاني، وإن لم يكن أخذ شيئًا من الغلة لم يكن خصمًا للثاني، سواء قدمه إلى القاضي الذي قضى به للأول أو قدمه إلى قاض آخر، وهذا الاستحسان ذهب إليه هلال.
والقياس أنه إذا قدمه إلى القاضي للأول أن يجعل خصمًا كما في مسألة الوصية بالثلث إذا أقام شهودًا أن الميت أوصى له بالثلث وقضى القاضي له بذلك، فأعطاه شيئًا من التركة، فجاء رجل وادعى أن الميت أوصى له بثلث ماله فلم يجد الوارث قدم هذا الموصى له، فهو خصم للثاني؛ لأنه يدعي شيئًا فيما في يده، وإن كان الأول لم يأخذ شيئًا من التركة، فإن قدمه الثاني إلى قاض آخر لا يكون خصمًا له، وإن قدمه إلى القاضي الأول جعله خصمًا له، يجب أن يكون الجواب في القرابة كذلك.
استحسن هلال وفرق بين المسألتين، ووجهه أن الموصى له شريك الوارث، فإذا قدمه إلى قاض علم بكونه شريك الوارث صار كما لو قدم الوارث، فأما الموقوف عليه ليس شريك الوارث والثاني لا يدعي على الأول شيئًا إنما يدعي على الواقف أنه قريبه والموقوف عليه ليس بنائب عن الواقف فلهذا لا يكون خصمًا.
ولو أن رجلًا أثبت قرابته من الواقف وفسر القرابة وقضى القاضي له بالغلة جاء آخر وأقام بينة أنه ابن المقضي له الأول، فإنه يقضي له بالغلة ولا يحتاج أن يفسر قرابته من الواقف؛ لأن الأول أثبت قرابته من الميت، فإذا أثبت الثاني أنه ابن الأول كان ابن الأول بتلك القرابة ضرورة، وكذلك لو كان المقضي له الأول امرأة وباقي المسألة بحاله.
وإن أقام الثاني بينة أنه أخ المقضي له لابنه، فالقاضي إن قضى الأول بقرابته من قبل أبيه قضى للثاني، وإن قضى للأول بقرابته من قبل أمه كان الثاني أجنبيًا عن الواقف، وعلى هذا يخرج جنس هذه الشهادة وشهادة ابني الواقف أن هذا الرجل قريب وَالدِنا مع تفسير القرابة مقبولة؛ لأنه لا تهمه في هذه الشهادة.
ولو ادعى قوم أنهم قرابة الميت وشهد بالقرابة بعضهم لبعض بأن شهد ابنان لابنين منهم أنهما قرابة الواقف لا يقبل شهادتهم؛ لأن كل فريق شهد للفريق الآخر بما له فيه شركة؛ لأن ما (من) جزء من أجزاء المال يثبت لأحد الفريقين إلا وللفريق الآخر فيه من الشركة، وإن كان القاضي قضى بشهادة الشاهدين الأولين ثم شهد المقضي لهما للشاهدين لا يقبل شهادتهما للشاهدين الأولين؛ لأنها لو قبلت تقع الشركة بين المشهود لهما وبين الشاهدين، وشهادة الشاهدين للأول ماضية على حالهما؛ لأنها تأكدت بالقضاء، فلا تبطل، بخلاف الفصل الأول، وهو ما إذا لم يقض القاضي بشهادة الشاهدين الأولين حيث لا يقبل شهادتهم جملة؛ لأن هناك شهادة واحد أحد الفريقين لم يتأكد، أما هنا بخلافه.
وإذا وقف أرضه على قرابته فجاء رجل وادعى أنه من قرابته وأقر الواقف بذلك وفسر القرابة وقال: هذا ممن وقفت عليه، فإن كان للواقف قرابة معروفون لا يصح إقراره؛ لأن الوقف قد ثبت للمعروفين، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال حق المعروفين في البعض، فلا يصدق كالمريض إذا أقر أن هذا أخي أو عمي وله ورثة معروفون، فإنه لا يصح إقراره كذا هاهنا، وهذا إذا كان الإقرار من الواقف بعد عقد الوقف، فأما إذا أقر بذلك في عقد الوقف بأن قال في عقد الوقف: هذا ممن وقفت عليه قبل ذلك منه؛ لأن حق الغير لم يثبت بعد فلم يكن هذا الإقرار مبطلًا حقًا على أحد بخلاف ما إذا كان الإقرار من الواقف (بعد) عقد الوقف، أما إذا لم يكن له قرابة معروفون فالقياس أن لا يصح إقراره؛ لأن الحق قد ثبت للفقراء فلا يقبل قوله في تنقيص حقهم وفي الاستحسان يقبل قوله؛ لأن الحق لم يثبت لشخص بعينه، وهو نظير المريض إذا لم يكن له ورثة معروفون، فقال لرجل: هذا أخي لأبي وأمي صح إقراره، وإن كان فيه إبطال حق يثبت المال، والمعنى ما ذكرنا أن الحق أثبت لشخص بعينه، وإذا عرفت الجواب في إقرار الوقف بالقرابة ينبني عليه مسألة الشهادة على إقرار الوقف بالقرابة، ففي كل موضع صح إقراره قبلت الشهادة على إقراره.
قال: وإذا وقف على ولده ونسله ثم أقر رجل أنه ابنه، فإنه لا يصدق في الغلات الماضية؛ لأنها صارت حقًا للمعروفين ويصدق في الغلات المستأنفة؛ لأن النسب يثبت بإقراره فعند الاستحقاق هو وسائر الورثة على السواء في النسب.
وإذا وقف على قرابته وجاء رجل يدعي أنه من قرابته وأقام بينة فشهدوا أن الواقف كان يعطيه مع القرابة في كل سنة شيئًا، لا يستحق بهذه الشهادة شيئًا وكذلك لو شهدوا أن قاضي فلان كان يدفع إليه مع القرابة في كل سنة شيئًا فلا يكون دفع القاضي حجة يحتمل أن القاضي قضى على بعض قرابة الواقف بإقراره له.
ومما يتصل بهذا الفصل معرفة قرابة الواقف الذين يستحقون الوقف: قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: كل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أبيه، وكل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أمه المحرم وغير المحرم، والقريب والبعيد، والجمع والفرد في ذلك سواء، فإذا وقف على قرابته أو ذي قرابته أو على أقربائه أو على ذوي قرابته دخل هؤلاء تحت الوقف عندهما. وقال أبو حنيفة: إن حصل الوقف بلفظ الوحدان نحو قوله: على قرابتي على ذي قرابتي دخل تحت الوقف من كان أقرب إلى الواقف من محارمه، وإن حصل الوقف بلفظ الجمع نحو قوله: على ذي قرابتي على أقربائي يعتبر مع ما ذكرنا الجمع حتى ينصرف اللفظ إلى المثنى فصاعدًا، وتكلم المشايخ في معنى قوله أقصى أب له في الإسلام قال بعضهم: معناه أقصى أب أسلم وقال بعضهم: معناه أقصى أب أدرك الإسلام أو لم يسلم، وثمرة هذا الاختلاف يظهر في العلوي إذا وقف على قرابته، فعلى قول من يشترط إدراك الاسلام أول أب أدرك الاسلام أبو طالب، فيدخل تحت الوقف أولاد عقيل وأولاد جعفر وأولاد علي، على قول من شرط نفس الإسلام أول أب أسلم علي، فيدخل تحت الوقف أولاد علي ولا يدخل أولاد عقيل وأولاد جعفر.
وقال هلال: القرابة إلى ثلاثة آباء، فمن انتسب إلى واحد من الآباء الثلاث يدخل في الوقف وما لا فلا وقال قوم: القرابة إلى أربع آباء، وإنما اعتبر أبو يوسف ومحمد أقصى أب له في الإسلام؛ لأنه لا وجه إلى صرف الوقف إلى القرابة العامة؛ لأنه يدخل تحت الوقف من كان في الجاهلية؛ لأن جميع الناس أقرباؤه؛ لأن الناس كلهم أولاد آدم ونوح عليهما السلام، فلو دخلوا تحت الوقف لا يصيب كل واحد منهم شيئًا منتفعًا، ونحن نعلم أن قصد الواقف إنفاع الموقوف عليه، أما لو اعتبرنا أقصى أب في الإسلام يصيب كل واحد منهم شيئًا منتفعًا، فلهذا اعتبرنا ذلك، وإنما سوينا بين القريب والبعيد والمحرم؛ لأن الاستحقاق باسم القريب وهذا اسم يتناول الكل، وإنما سوينا بين الجمع والفرد؛ لأن الاستحقاق باسم القرابة والقريب، وإنه اسم جنس، واسم الجنس ينصرف إلى الواحد مع احتمال الجمع، وأما أبو حنيفة رحمه الله إنما اعتبر الجمع فيما إذا حصل الإنفاق بلفظه الجمع، عملًا بحقيقة اللفظ، وإنما اعتبر القرابة المحرمة للنكاح؛ لأن مقصود الواقف صلة القرابة، فالظاهر أنه يريد به قرابته بفرض وصلها، وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب؛ لأن القرابة سبعة من القرب فمن كان أقرب كان أولى يصرف اللفظ إليه.
بيان جملة ما ذكرنا إذا كان للواقف عمان وخالان وقد حصل الإنفاق بلفظ الجمع، فعلى قول أبي حنيفة الغلة للعمين؛ لأنه يعتبر الأقرب فالأقرب، وقرابة العم أقرب من قرابة الخال، ولهذا كان الميراث للعم دون الخال، واسم الجمع ينطلق عليهما، وعندهما: الغلة للعمين والخالين أرباعًا؛ لأنهما لا يعتبران الأقرب لما ذكرنا أن اسم القرابة يتناول الكل.
ولو كان له عم واحد وخالان فعلى قول أبي حنيفة للعم نصف الغلة والنصف بين الخالين نصفين؛ لأن أبا حنيفة يعتبر الأقرب، وقرابة العم أقرب فكأن العم انفرد، إلا أن العم الواحد لا يستحق أكثر من نصف الغلة إذا كان الإنفاق بلفظ الجمع عنده؛ لأن استحقاق الكل عنده في هذه الصورة معلق بوجود الجمع والواحد ليس بجمع لا بد، وأن ينقص من الكل شيئًا، وأعلى ما يستحق الواحد وغيره النصف، وإنما اعتبرنا الأعلى وهو النصف؛ لأنه إنما ينقص حقه عن النصف إذا كثر المزاحم ولا نهاية لما زاد على الواحد، فلا يعتبر المزاحم أكثر من الواحد، وإذا أخذ العم نصف الثلث خرج هو من البين وصار الواقف في النصف الباقي كأنه لا عم له، فيكون بين الخالين، وعلى قول أبي يوسف ومحمد الغلة بين العم والخالين بالسوية لما قلنا: إنهما لا يعتبران الأقرب ولا يعتبران الجمع.
ثم اختلف المشايخ على قول أبي يوسف ومحمد، بعضهم قالوا: إنما يصح الوصية لقرابة إذا كان من يجمعه وأقصى أب له في الإسلام لا يخرجون عن حد الإحصاء.
وعامة المشايخ على أن الوقف صحيح على كل حال، ولأن هذا وقف أريد به وجه الله تعالى وهو صلة القرابة فيصح على كل حال.
فبعد ذلك إن كانوا يحصون، فالغلة بينهم على السوية لا يفضل البعض، وإن كانوا لا يحصون صار كأنه وقف على الفقراء، فعلى قول أبي يوسف جاز صرف جميع الغلة إلى الواحد منهم بناء على أن الفقراء عنده اسم جنس، وعند محمد لا يجوز أن يعطي دون الاثنين بناء على أن عنده الفقراء اسم جمع وأقل الجمع في هذا الباب المثنى أصل هذا الاختلاف في الوصايا: قال الله تعالى: {الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 180] عطف القريب على الوالد والشيء لا يعطف على نفسه ولأن اسم القريب يبنى عن القرب وبين الوالدين والمولودين بعضه، وإنما يبنى عن الإيجاد دون القرب.
ودخل تحت هذا الوقف الجد والجدة وولد الولد؛ لأن اسم القريب ينطلق عليهم.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم لا يدخلون، والذي ذكرنا في قوله لأقربائه ولذوي قرابته فكذا في قوله يدخل لأرحامه ولأنسابه ولذوي أنسابه؛ لأن المعنى يجمع الكل.
ولو وقف على ذي قرابته أو على قرابته فالقياس أن تكون الغلة لواحد من قرابته حتى إذا كان له عم وخالان، فالغلة كلها للعم؛ لأن اللفظ فرد بصيغته وفي الاستحسان الوقف عليهم؛ لأنه يراد به الجنس، فإنه يراد به التودد، فكأنه عمهم.
قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه المسألة يجب أن تكون على الخلاف على قياس مسألة الوصية إذا أوصى بثلث ماله لهذا ولهذا أو لأحد من بني فلان، فعلى قول أبي حنيفة الوصية باطلة؛ لأنها وقعت لمجهول وعلى قول محمد الوصية جائزة وللورثة الخيار؛ لأنهم قائمون مقام المورث وعلى قول أبي يوسف الثلث لهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فعلى قياس تلك المسألة يجب أن تكون الغلة للكل على قول أبي يوسف، وعلى قول محمد يجوز إعطاؤها للواحد، وعلى قول أبي حنيفة يجب أن يكون كقول محمد؛ لأنه جعل الوصية للواحد حتى قال: الوصية وقف للمجهول.
ولو كان وقف على ذوي قرابته أو أقربائه أو أنسابه أو أرحامه الأقرب فالأقرب فإنه يدخل تحت الوقف الأقرب، فالأقرب ولا يعتبر الجمع بلا خلاف؛ لأن قوله الأقرب فالأقرب خرج تفسيرًا لصدر الكلام، فيكون العبرة له، وإنه اسم فرد، فيتناول الواحد عند أبي حنيفة والأقرب عندهما.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضًا إذا وقف على أقرب الناس منه أو إليه ومن بعده على المساكين وله ابن وأب دخل تحت الوقف على أقرب الناس من قرابته لا يدخلان تحت الوقف؛ لأن في الفصل الثاني اعتبر الأقرب من قرابته وابنه وأبوه ليسا من قرابته وفي الفصل الأول اعتبر الأقرب إليه والابن أقرب إليه، وإن كان له ابن وأبوان، فالغلة للابن؛ لأن الابن أقرب إليه كذلك الابنة، فإذا مات الابن أو الابنة كانت الغلة للمساكين، ولا يكون للأبوين؛ لأنه جعل ذلك للأقرب ولم يجعل الأقرب فالأقرب، وإن كان له أبوان لا غير كانت الغلة بينهما نصفان، فإن مات أحدهما كان للحي النصف والنصف الآخر للمساكين، وإن كان للواقف أم وأخوة كانت الغلة للأم دون الأخوة.
وكذلك إذا كان للواقف أم وجد، فالأم أقرب من الجد ومن الأخوة، والأب أيضًا أقرب، وإن كان جد أب وأخوة، فالغلة للجد في قول من يداه بمنزلة الأب وفي قول الآخر للأخوة دون الجد، فإن كان له ثلاثة أخوة متفرقين فالغلة للأخ لأب وأم، فإن كان له أخ لأب وأخ لأم، فالغلة لهما جميعًا، ولا ينظر في ذلك إلى الوارث وعند أبي حنيفة الأخ لأب أولى.
ولو كان له أب وابن ابن، فالغلة للأب دون ابن الابن، فإن كانت له بنت بنت وله ابن ابن أسفل من هذه كانت الغلة لبنت البنت، وكذلك الوصية في هذا كله. ولو كان له أخت لأب وأم وبنت بنت فبنت بنت البنتان أولى؛ لأنها من صلبه والأخت من صلب أبيه ولا يعتبر الإرث، ألا ترى أنه لو كان له موالي العتاقة، فبنت البنت أولى في الوقف، وإن كان مولى العتاقة مقدمًا على بنت البنت في الميراث.
فالحاصل أنه يبدأ بولد الواقف ثم بولد الأب ثم بولد الجد، فإن كان له أب الأم وبنت الأخ له أم ولأب أو لأب وأم، فعند أبي حنيفة الجد أولى، وعندهما بنت الأخ أولى، ولو كان مكان بنت الأخ بنت البنت فهي أولى بالاتفاق، ولو كان له ابن أخ لأب وأم وأخ لأب أو لأم فالغلة للأخ، وإن كان له ابن أخ لأب وابن أخ لأم فعند أبي حنيفة الغلة لابن الأخ، وعندهما الغلة بينهما وجنس هذه المسائل في (وقف الخصاف) في باب الرجل يقف أرضه على قرابته يبدأ بأقربهم.
ولو قال: أرضي صدقة في القرابة أو على القرابة ولم يقل قرابتي قال: هما سواء ويكون ذلك لقرابته وكذلك لو قال: للأقارب والأنساب أو لذوي الرحام ولم يضف إلى نفسه يكون ذلك لقرابته لمكان العرف، ولأن معهود كل إنسان قرابته، والألف واللام لتعريف المعهود، ولو كان (قال) على قرابتي من قبل أمي وأبي أو على قرابتي من قبل أمي فهو على ما قال، وتقسم الغلة عليهم على عدد رؤوسهم يستوي فيه من كان من قبل أبيه ومن كان من قبل أمه، ولا تترجح قرابته من قبل أبيه وأمه.
ولو قال: بين قرابتي من قبل أبي وبين قرابتي من قبل أمي، فنصف الغلة تكون لقرابته من قبل أبيه، ونصفها يكون لقرابته من قبل أمه. قال: ألا ترى أن من قال أوصيت بثلث مالي بين زيد وبين عمرو، فاذا أحدهما ميت فللحي منهما نصف الثلث.
ولو قال: أوصيت بثلث مالي لزيد وعمرو فإذا أحدهما ميت فللحي منهما كل الثلث. ذكر الخصاف في (وقفه): إذا وقف على قرابته الأقرب فالأقرب وبعدهم على المساكين، فالغلة كلها لأقرب قرابته منه واحدًا كان أقربهم أو أكثر من ذلك ويقسم عليهم على عدد رؤوسهم، فإن قال بعضهم: لا أقبل هذا أو قبل بعضهم كانت الغلة لمن قبل منهم وسقط من لم يقبل منهم، فإن مات هؤلاء الذين كانوا أقرب إليه كانت الغلة لمن يلي هؤلاء بطنًا بعد بطن. وكذا لو قال: يعطي غلة هذا الوقف أقرب الناس إلي نسبًا ورحمًا ثم الأقرب فالأقرب بعد ذلك، وكذلك لو قال: الأولى فالأولى وكذا إذا وقف على فقراء قرابته الأقرب فالأقرب بدئ بالأقرب فالأقرب، هكذا ذكر الخصاف وهلال عن أبي يوسف أن القريب والبعيد في هذا سواء إلا أن يقول: الأقرب ثم الأقرب ثم على ما ذكر هلال والخصاف إذا وجبت البداية بالأقرب يعطي مائتي درهم ولا يعطي أكثر من مائتي درهم، أما إعطاء المائتين؛ لأن المقصود من هذا الوقف الأغنياء عرف ذلك بذكر الفقراء والغناء لا يقع بأقل من المائتين ولا يعطي أكثر من المائتين؛ لأن الإغناء بقدر المائتين، فلا حاجة إلى الزيادة، فإن أعطى مائتي درهم وبقي من الغلة شيء يعطي الذي يليه مائتي درهم، فإن أعطى كل واحد منهم مائتي درهم وبقي من الغلة شيء، فالقياس أن يكون ذلك كله للأقرب فالأقرب، وهناك يعطي الأقرب كل الغلة، فهنا بذلك.
وفي الاستحسان: يقسم بينهم بالسوية؛ لأن الأصل كان مقسومًا بالسوية، فكذا الفضل يؤخذ حكمه من الأصل كما قلنا في المواريث ما فضل من السهام يرد عليهم على قدر الأصول، ذكر هلال المسألة على القياس والاستحسان، والخصاف في جنس هذه المسالة لم يذكر القياس والاستحسان، وصورة ما ذكرها الخصاف إذا كان أقربهم إليه جماعة قسمت بينهم بالسوية إذا كان الذي يصيب كل واحد منهم مائتا درهم أو أقل، وإن كان في الغلة ما يصيب كل واحد من البطن الأعلى مائتا درهم وفضل عنهم، قال: يقسم الفاضل بينهم، قال: وكذلك يكون الحال في كل بطن منهم، وقال أيضًا: إذا كان قال: يبدأ بالأقرب فالأقرب مني يعطي من غلة هذه الصدقة ما يصيبه، قال: يبدأ بأقربهم فيعطى مائتا درهم يليه ثم يعطي الذي يليه مثل ذلك حتى ينتهي إلى آخرهم، فإن فضل شيء من غلة هذه الصدقة كان ذلك لهم.
ولو قال: على فقراء قرابتي على أن يبدأ، فيعطي جميع الغلة الأقرب فالأقرب يعطي الأقرب كل الغلة؛ لأنه هكذا أوجب، وإنما كنا نعطيه مائتي درهم بدلالة ذلك الفقراء، ولا قوام للدلالة إذا جاء الصريح بخلافها.
ولو قال: على فقراء قرابتي يعطي منها الأقرب فالأقرب، يعطي الأقرب مائتي درهم ولا يعطي جميع الغلة؛ لأن الهاء في قوله: منها كناية عن الغلة، فقد أوجب بعض الغلة الأقرب فلا يعطي جميعًا.
ولو قال: على أن ما أخرج الله تعالى من غلاتها يعطي الأقرب فالأقرب من قرابتي، يعطي الأقرب جميع الغلة؛ لأن (من) هنا راجع إلى الأرض دون الغلة؛ لأن الخارج يكون من الأرض، فلا يوجب تنقيصًا في الغلة.

.الفصل الثاني عشر: في الوقف على أهل البيت والآل والجنس والعصب والجيران وأشباه ذلك:

وإذا وقف أرضه على أهل بيته دخل تحت الوقف كل من يتصل به من قبل آبائه إلى أقصى أب له في الإسلام، يستوي فيه المسلم والكافر والذكر والأنثى والمحرم وغير المحرم والقريب والبعيد وهذا لأن المراد من البيت المذكور هنا بيت النسب لا بيت السكنى، فكل من يجمعه وآباؤه بيت نسبه دخل تحت الوقف، ونسب الإنسان من قبل أبيه، فكل من اتصل به من قبل آبائه إلى أقصى أب له في الإسلام، فهو من أهل بيته ولا يدخل تحت الوقف الأب الأقصى لو كان حيًا؛ لأنه مضاف إليه لا يدخل تحت الإضافة ويدخل تحت الوقف وكذا الوقف؛ لأن ولد الواقف يضاف إلى أب الواقف الأكبر، وكذلك ولده يدخل تحت هذا الوقف لما قلنا، ولا يدخل تحت هذا الوقف أولاد البنات، وأولاد الأخوات؛ لأنهم لا ينسبون إلى أب الواقف الأكبر إنما ينسبون إلى آبائهم فصاروا من أهل بيت آخر، وكذلك لا يدخل أولاد من سواهن من الإناث لما قلنا.
إذا كان زوجها من بني أعمام الوقف وعشيرته فحينئذٍ يدخلون؛ لأنهم من أهل بيت نسبه، والجواب فيما إذا وقف على جنسه كالجواب فيما إذا وقف على أهل بيته؛ لأن الإنسان من جنس قوم أبيه.
والجواب فيما إذا وقف على آله كالجواب فيما إذا وقف على أهل بيته؛ لأن الآل وأهل البيت يستعملان استعمالًا واحدًا، فإذا وقفت امرأة على أهل بيتها أو على جنسها أو على آلها لا يدخل تحت الوقف والديها؛ لأن والديها لا ينسب إلى أبيها الأكبر الذي هو صاحب بنت نسبها، وكذلك ولدها لا يدخل لهذه العلة.
واذا وقف على أهله فالقياس أن يدخل تحته امرأته لا غير، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ثمة، وذكر هلال في وقفه قول أبي حنيفة ولم يذكر القياس، وفي الاستحسان يدخل تحت الوقف كل من في عياله ونفقته....... هذا هو المتعارف، ولا يدخل تحت الوقف مماليكه؛ لأن مماليكه خدام الأهل، وما يجب لهم فهو للمولى والمولى لم يدخل تحت الوقف.
وأما العيال فكل من كان في نفقة إنسان فهو من جملة عياله سواء كان في منزله أو غير منزله.
وأما الحشم فقد ذكر هلال أن الحشم بمنزلة الأعيال، ورواه عن أصحابنا وقد قيل: إن الحشم أعم، يقال للسلطان هم كثر؛ لأن صاحب الكتاب وضع المسألة في أواسط الناس وأواساط الناس لا يجمعون الجنوس، فلهذا سوى بين العيال والحشم.
وإذا وقف على جيرانه، فعلى قول أبي حنيفة الجار يستحق الشفعة، وشرط هلال والخصاف أن يكون ملازقًا لداره والالتزاق ليس بشرط أنه يستحق الشفعة ملازقًا كان أو غير ملازق، ثم في ظاهر مذهب أبي حنيفة السكنى، مالكًا كان الساكن أو غير مالك، وروى محمد عن أبي حنيفة أن الشرط هو الملك دون السكنى، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية. وقال أبو يوسف ومحمد: الجار كل من يجمعهم مسجد المحلة، وفي (الزيادات): أن قول أبي حنيفة قياس، وقولهما استحسان.
والصغير والكبير والمسلم والكافر في ذلك على السواء؛ لأنهم في استحقاق اسم الجار على السواء. والعبيد والإماء لا يدخلون في هذا الوقف، بخلاف المكاتبين؛ لأن الجوار بالسكنى وسكنى المكاتب مضاف إليه بخلاف سكنى العبيد والإماء، ألا ترى أن المكاتب يستحق الشفعة، والعبد والأمة لا يستحقان الشفعة؟ قال بعض مشايخنا: اختيار ما ذكر من الجواب في العبيد محمول على ما إذا كانوا مع الموالي، فإذا كانوا منفردين بأن كانوا مأذونين يدخلون تحت الوقف؛ لأن سكناهم في هذه الصورة تضاف إليهم، ألا ترى أن العبد المأذون يستحق الشفعة كالمكاتب، ومن انتقل من جوار الوقف بعد الوقف أو استغنى لم يكن له من الوقف شيء، وإنما ينظر في هذا إلى مكان جار الوقف يوم تقع قسمة الغلة لا يوم حدوث الغلة قال هلال: بخلاف القرابة؛ لأن الجوار يزول وينقطع بخلاف القرابة. ولو وقف على جيرانه، وله دار فيها ساكن، فانتقل منها إلى دار قرابته وسكنها بأجر إلى أن مات، فالغلة لجيران الدار التي انتقل إليها ومات فيها.
ولو وقف على جيرانه ثم خرج إلى مكة ومات فيها، قال: إن كان اتخذها دارًا، فالغلة لجيرانه بمكة؛ لأن جوار هذه قد انقطع، وإن خرج حاجًا أو معتمرًا فالغلة لجيران بلده؛ لأن جوارهم لم ينقطع.
ولو كان له داران وهو يسكن في إحداهما والأخرى للغلة، فإن الغلة لجيران الدار التي يسكن فيها، وإن كان له في كل واحد منهما زوجة، فالغلة لجيران الدارين، وكذلك لو كانت إحداها بالبصرة والأخرى بالكوفة وله في كل واحد منهما زوجة.
ولا يدخل في هذا الوقف ولد الواقف وإن كان جارًا، وولد الولد يدخل إذا كان جارًا قياسًا على القرابة ولا يدخل استحسانًا؛ لأنه لا يسمى جارًا عرفًا، وكذلك زوجته لا تدخل، وأما أخوه وعمه وخاله يدخلون؛ لأن اسم الجار يقع عليهم، ولو وقف على فقراء جيرانه ومات، فباع ورثته تلك وانتقلوا إلى ناحية أخرى، فالغلة لجيرانه يوم مات ولا يلتفت إلى بيع الورثة.
ولو وقف على فقراء الجيران ولم يضف الجيران إلى نفسه بأن لم يقل على فقراء جيراني، فهذا وما لو قال: على فقراء جيراني سواء لما قلنا في القرابة، وإن كان حين مرض حوله ابنه إلى محلة أخرى أو قرية ثم مات، فالغلة لجيرانه الأولين وليس هذا بانتقال.
ولو أن امرأة كانت تسكن في دار فوقفت على جيرانها وقفًا ثم تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجها وماتت فيها، فجيرانها جيران زوجها؛ لأنها تابعة للزوج في السكنى، فانقطع جوارها الأول، قالوا: إن كان متاعه في داره فالغلة للأولين؛ لأن جوارهم لم ينقطع، وإذا وقف على جيرانه، فأعطى الوصي بعضهم دون البعض ضمن؛ لأنهم هنا يخصون، فكانوا متعينين فقد دفع حقًا مستحقًا لقوم معينين إلى غيرهم فيضمن، بخلاف ما إذا وقف على الفقراء؛ لأن هناك المستحق ليس معين.
وإذا وقف على فقراء جيرانه، فالأرملة تدخل إذا كانت جارًا، وذات البعل لا تدخل؛ لأن سكنى الأرملة مضاف إليها فكانت جارًا حقيقة بخلاف ذات البعل؛ لأنها تابعة للزوج في السكنى، فلم يكن سكناها مضافًا إليها، فلم يكن جارًا حقيقة.
وإذا وقف على أيتام قرابته، فاليتيم صغير أو صغيرة مات أبوه ولم يدرك حياة الأم (لا) يخرجه من أن يكون يتيمًا، كذلك حياة الجد لا يخرجه من أن يكون يتيمًا، وإذا أدرك الصغير أو الصغيرة فقد خرج أن يكون يتيمًا، وإدراك الغلام بالاحتلام وأدرك الجارية بالحبل أو الحيض، وإن لم يكن شيء من ذلك حتى بلغ خمس عشرة سنة، ففي المسألة اختلاف والمسألة معروفة، وإن احتلم الغلام بعد مجيء الغلة وحاضت الجارية بعد مجيء الغلة، فحصته ثابتة له من هذه الغلة؛ لأنه استحقاق قد ثبت حين جاءت الغلة، وهو لم يدرك، فلا يبطل الإدراك بعد ذلك.
فإن تنازعوا في ذلك فقال سائر المستحقين: إنما احتلمت قبل مجيء الغلة، وقال هؤلاء: بل احتلمت بعد مجيء الغلة، فالقول قوله. وكذلك إذا وقع الاختلاف في حيض الجارية، وهذا لأن الاحتلام أمر حادث، والحيض كذلك، والأصل في الحوادث أن يحال حدوثها على أقرب الأوقات يوضحه: أن حاصل اختلافهم في خروجه عن الاستحقاق، فيكون القول قوله.
وإذا وقف على عقب فلان فاعلم بأن عقب الإنسان كل من يرجع بآبائه إليه، ولا يدخل فيه ولد البنات إلا إذا كان أزواج البنات من ولد فلان، وكذلك أولاد من بنيهن من الإناث لا يدخل في هذا الوقف إلا إذا كان أزواجهن من ولد فلان، ولو وقف على زيد وعقبه ولزيد أولاد وزيد حي لا يكون للأولاد شيء من الوقف؛ لأن ولد الرجل لا يسمى عقبه إلا بعد موته، وإذا وقف على أهل بيته دخل تحت الوقف من كان موجودًا من أهل بيته ومن يأتي بعد هؤلاء من أولادهم، وأولاد أولادهم.
ولو أوصى بثلث ماله لأهل بيته، فإن الوصية لمن كان موجودًا وقت موت الموصي ولمن كان يولد من أهل بيته لأقل من ستة أشهر من يوم مات الموصي، والفرق أن الوصية لا تجوز لمن لم يخلق، والوقف يجوز.
ولو قال: وقف على فقراء أهل بيتي أو قال: على من افتقر من أهل بيتي، قال الخصاف: أنظر في هذا إن كان فقيرًا يوم تقع القسمة ولا أعتبر وقت طلوع الغلة، وكذلك في كل موضع كان الوقف على الفقراء، فالخصاف لا يعتبر يوم طلوع الغلة، قال: لأن الواقف إذا ذكر الفقراء صار الوقف كالزكاة لا ينظر إلى يوم الوجوب إنما ينظر إلى يوم الأداء، فكذا هذا.
وفرق هلال بينما إذا كان الوقف على الفقراء والمساكين، وبينما إذا كان الوقف على فقراء قرابته فقال: إذا كان الوقف على الفقراء والمساكين يعتبر الفقير يوم القسمة لا يوم طلوع الغلة، وفيما إذا كان الوقف على فقراء القرابة يعتبر يوم طلوع الغلة حتى لو استغنى بعد ذلك يعطى نصيبه، وإذا مات يورث نصيبه، ولو كان غنيًا يوم طلوع الغلة ثم افتقر لا يعطى شيئًا.
والفرق أن في الوقف على الفقراء والمساكين الحق غير ثابت للمعين في الغلة يوم حدوثها. ألا ترى أن للقيم أن يعطي من شاء ويحرم من شاء، وألا ترى أن شهادة الفقيرين على الوقف على الفقراء مقبولة، وإنما يجب الحق بالقسمة فيعتبر يوم القسمة، فأما في الوقف على فقراء قرابته الحق قد وجب لهم بأعيانهم، ألا ترى أن القيم لو منع حصة أحدهم ضمنها له، وألا ترى أنه لا يقبل شهادة الشاهدين من القرابة على هذا الوقف فعلم أن الحق قد ثبت في الغلة يوم حدوثها، فلا يبطل هذا الحق بالموت أو بالاستغناء بعد ذلك.

.الفصل الثالث عشر: في الرجل يقف أرضه على الفقراء، فيحتاج أحدمن ولده أو يحتاج هو في وقف نفسه:

إذا جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين، فاحتاج بعض قرابته وأراد أن يعطى من تلك الغلة بأن هنا مسألتان: إحداهما إذا احتاج الواقف بنفسه والحكم فيها أن لا يعطى من تلك الغلة شيء، هكذا ذكر هلال في وقفه. قال الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله: هذا الجواب على مذهب هلال صحيح، فإن من مذهبه أن الواقف لو شرط أن يأكل بنفسه مادام حيًا لا يصح، ولا يحل له الأكل، فكذا إذا احتاج بعد ذلك لا يحل له الأكل اعتبارًا للانتهاء بالابتداء، فأما على قول أبي يوسف يصح؛ لأن على قوله لو شرط في ابتداء الوقف أن يأكل بنفسه صح الشرط له الأكل، فكذا يحل له الأكل في الانتهاء إذا احتاج إليه بعد ذلك، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: هذا الجواب صحيح على قول الكل؛ لأن على قول أبي يوسف إذا شرط في ابتداء الوقف أن يأكل إنما يحل له الأكل؛ لأنه بالشرط استثنى الغلة عن حق الفقراء، فلم يزل الغلة عن ملكه إنما زالت الرخصة عن ملكه، فيصير آكلًا ملك نفسه، أما هاهنا الغلة زالت عن ملكه وثبت فيها حق الفقراء، فلا يصير آكلا ملك نفسه لو حل له الأكل حل بطريق الصدقة، ولا وجه إليه؛ لأنه يصير متصدقًا على نفسه، وقال الفقيه أبو جعفر: يجوز أن يفرق بين الابتداء وبين الانتهاء، فيقال في الابتداء: إنما يستحق بالشرط؛ لأن الشرط خرج على وجه الفساد، وهذا الوقف قد صح بإضافته إلى الفقراء، فيجوز له التناول بحكم فقره، وهذا كما قال محمد في (السير) إذا قال الأمير: إن قتلت هذا الكافر فلي سلبه ثم قتله لا يستحق السلب؛ لأن كلامه خرج على وجه الفساد.
وبمثله لو قال: من قتل قتيلًا فله سلبه فقتل الإمام بنفسه كافرًا استحق السلب؛ لأن كلامه خرج على الصحة، فيستحق السلب عند وجود نسبته منه.
المسألة الثانية: إذا احتاج بعض قرابته، فإن كان الوقف في حالة مرض الموصي لا يعطي؛ لأن هذا في معنى الهبة للوارث في مرض الموت لا يجوز، وكذا إن كان الوقف في حالة الصحة، ولكن يضاف إلى ما بعد الموت بأن قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد وفاتي على المساكين، وهي تخرج من الثلث؛ لأن هذه الوصية والوصية للوارث باطلة، ويعطي ولد ولده إن لم يكن وارثًا ذكر هلال في وقفه، وذكر الخصاف في (وقفه) أنه إذا أوصى الواقف أن يجعل أرضه صدقة موقوفة لله أبدًا بعد وفاته على المساكين، فاحتاج ولده أعطاهم غلة هذه الصدقة، وليس هذا بوصية، وأجاب عن قول هلال؛ لأن هذا وصية، فقال: هذا من طريق الايجاب، وإن كان الوقف في حالة الصحة ولم يكن مضافًا إلى ما بعد الموت، ذكر في (واقعات الناطفي): أن الصرف إلى ولد الواقف أفضل، ثم إلى قرابة الواقف ثم إلى مولى الواقف ثم إلى أهله حضره أيهم أقرب من الواقف منزلًا، وذكر هلال في وقفه أن يعطي أقل من مائتي درهم، وهو أولى من سائر الفقراء.
ولو رأى القيم أن لا يعطيه كان له ذلك وهو قول الفقيه أبي بكر الأعمش رحمه الله مقصود الواقف من الوقف الثواب، والتصدق على فقراء القرابة أكثر ثوابًا، وإليه أشار عليه (الصلاة والسلام) في قوله لامرأة عبد الله بن مسعود حين أرادت أن تتصدق على زوجها «لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة» والدليل عليه أن في باب الزكاة على قرابته الذين دور الدفع إليهم أولًا ثم إلى جيرانه ثم إلى أهل بلده، ولكن يعطى أقل من مائتي درهم، ولو أعطى مائتي درهم يجوز، ويكره كما في الزكاة، وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: لا يعطي لأحد من قرابة الواقف شيء من هذا الوقف؛ لأنه إن أعطى صيروه ملكًا بمرور الزمان، فيؤدي إلى إبطال الوقف، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: إن طلب وخاصم وباع القيم لا يعطى؛ لأنه إذا خاصمه في ذلك أن قصده التملك وإبطال الوقف بخلاف ما إذا لم يخاصم ولم ينازع، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن خاصم القيم ونازعه لا يعطى، وإن لم يخاصمه ولم ينازعه يعطى وهو أولى، ولكن لا يصرف إليه كل الغلة، فإنما يصرف في بعض الأزمان دون البعض؛ لأن في صرف الكل إليهم على الدوام إبطال الوقف عسر؛ لأنه ربما يقع عند الناس أنه ملكهم فيشهدون له بالملك عند دعواه ذلك لنفسه، هذا إذا وقف على الفقراء أو احتاج إليه بعض قرابته، فأما إذا وقف على فقراء قرابته تصرف جميع الغلة إليهم، وإن كان نصيب كل واحد منهم أكثر من مائتي درهم؛ لأن الواقف أوجب ذلك، وأما إذا وقف على الأفقر فالأفقر من قرابته، فهنا لا يعطي الكل إنما يعطي أقل من مائتي درهم.
قال هلال: إذا وقف على الفقراء جاز صرفه إلى ولده إذا احتاج إليه، وفرق بين الوقف وبين الزكاة، فإنه لا يجوز صرف الزكاة إلى ولده، والفرق أن بوجوب الزكاة لم يزل ملك المالك عن قدر الزكاة، فكان الواجب على المالك الإخراج والتمليك من كل وجه، ولا يتحقق ذلك فيما بين الوالدين والمولودين؛ لأن منافع الأملاك بينهما متصلة، أما الوقف قد زال عن ملك الواقف بنفس الإنفاق، فليس عليه الإخراج والتمليك من كل وجه، وإنما عليه إعانة الفقراء على أخذ حقهم، والإعانة على أخذ الحق يتحقق بين الوالدين والمولودين.
ولو وقف أرضه على أن نصف غلتها للمساكين ونصفها للفقراء من قرابته فاحتاج قرابته وكان الذي سمي لا يكفيهم يعطيهم ما جعل للفقراء لفقرهم قال هلال: وهو قول أبو يوسف بن خالد السمتي، وقال إبراهيم بن يوسف البلخي: وعلي بن أحمد الفارسي والفقيه أبو جعفر الهندواني يعطون من نصيب الفقراء؛ لأنهم فقراء وفقراء قرابته يستحقون بالجهتين جميعًا كمن وقف أرضًا على قرابته وأرض جيرانه وبعض جيرانه قرابته يستحقون من الوقفين، وجه قول هلال: أنه لما بين نصيب كل فريق فقد قطع الشركة وشرط لكل فريق بعضه فيجب رعاية شرطه.
وعن أبي يوسف أن الواقف إن شرط في الوقف أن لفقراء قرابته كذا وللمساكين والفقراء كذا، يعطي فقراء القرابة من نصيب الفقراء، وبه أخذ محمد بن سلام البلخي رحمه (الله) وجعلا هذا نظير الوصية، فإن أوصى ببعض الثلث لقرابته وببعضه للفقراء استحق القريب من نصيبه الفقراء إذا كان فقيرًا، وبمثله لو أوصى ببعض الثلث لقرابته والباقي للفقراء لا يستحق القريب من نصيب الفقراء كذا هنا.
لو جعل أرضه صدقة موقوفة على الغارمين وله قرابة محتاجون، فإنهم لا يعطون منها شيئًا إلا أن يكونوا غارمين اعتبارًا للشرط، وكذلك إذا قال في ابن السبيل: لا يعطي قرابته منها شيئًا إلا أن يكون في قرابته ابن السبيل، وكذا إذا قال: في سبيل الله قال: وسبيل الله الغزو والجهاد، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنهما قالا: جميع وجوه الخير والبر سبيل الله، ولو جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء فاحتاج قرابته فرفع ذلك إلى القاضي فأعطاهم منها القوت أيكون هذا حكمًا لهم من القاضي بالأقوات؟ قال هلال: لا، وإنما هذا بمنزلة الفتوى وليس بقضاء حجة، حتى لو عزل بطل، وكذا لو رجع بنفسه عمل رجوعه، ولو أعطى القيم غيرهم لم يضمن، ولو قال حكمت أن لا يعطى قرابته نفذ حكمه حتى ليس لقاضٍ آخر أن يبطله، ولو أعطى القيم غير القرابة ضمن، هكذا ذكر هلال في وقفه، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: لا ينفذ حكمه، وجه قوله في ذلك أن هذا حكم بخلاف ما يقتضيه الشرع؛ لأن الواقف ما وقف على القرابة إنما وقف على الفقراء وحال ما وقف لم يكن هؤلاء ليدخلوا تحت الوقف من حيث إنهم فقراء، وجه ما ذكر هلال: أن مقصود الواقف الآخر الثواب، وفي الصرف إلى القرابة أكثر فكان قضاؤه موضع الاجتهاد فينفذ.
لو وقف أرضًا له على فقراء قرابته وأرضًا له أخرى على فقراء المساكين ووقف القرابة لا يكفيهم، فإن كان ذلك في عقد واحد لا يعطون كأنه وقف واحد، وقد قطع الشركة حتى يبين كل واحد نصيبًا، فأما إذا كان في عقدين فلم يقطع الشركة، فإذا اجتمع الوصفان استحق بهما، ويجب أن يكون ما ذكر من الجواب فيما إذا كان العقد واحدًا على قول هلال و(أبي) يوسف بن خالد على نحو ما بينا قبل هذا.
وإذا وقف أرضه على الفقراء والمساكين فاحتاج بعض قرابته إلى ذلك فأعطي من الغلة مائتي درهم فأنفقها وصار فقيرًا وقد بقي من الغلة شيء، فإن كان يعلم أن إنفاقه في غير فساد وأنه أنفقها فيما لابد منه أوصى من يعطي من النفقة ما يكفيه، وإن علم أنه أسرف أو أنفق في فساد لا يعطى؛ لأنه يكون إعانة على الفساد، وكذلك هذا الجواب في الزكاة ويصير هذا الفصل رواية في أن الفقير إذا كان يعلم أنه ينفق في معصية أو سرف، أنه لا ينبغي.
وإذا وقف على فقراء قرابته وله قرابة من غير أهل البلد الذي الواقف إلى تلك البلدة يقسم على فقرائهم في هذه البلدة، وإن بعث القيم إلى تلك البلدة، فلا ضمان وهو بمنزلة الزكاة.
ومما يتصل بهذا الفصل، إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة أبدًا على زيد وولده وولد ولده أبدًا ماتناسلوا، ومن بعدهم على المساكين على أنه إن احتاج قرابتي رد عليهم هذا الوقف، فكانت غلته لهم فكانت قرابته جماعة، فاحتاج بعضهم وبعضهم أغنياء رد هذا الوقف على من احتاج من قرابته، وكذلك لو قال: إن احتاج موالي فاحتاج بعضهم، ولو قال: على أن ولد زيد إن ماتوا ردت غلة هذا الوقف على عمرو، فمات بعض ولد زيد وبقي البعض لم ترد الغلة حتى يموت كل ولد زيد، هكذا ذكر الخصاف قال: ولا يشبه هذا الباب الأول؛ لأن في الأول قصد إلى الرد على المحتاجين منهم.
قال هلال في (وقفه): إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد موتي على الفقراء، فمن احتاج من ولدي وولد ولدي أعطي ما يكفيه، كان كما قال فإن احتاج أحد من ولد صلبه ينظر إلى ما يكفيه فيكون ذلك ميراثًا لجميع الورثة؛ لأنه لا يستحق بالوقف؛ لأنه بمنزلة الوصية لا يجوز للوارث، فلا يختص هو به، وإن احتاج بعض ولد الولد أعطي له ما يكفيه، ويكون ذلك بالوقف؛ لأن الوصية له جائزة، فإن احتاج ولد الصلب وولد الولد أعطيا، ثم ما يصيب ولد الصلب يكون بين الورثة وما يصيب ولد الولد يكون له، و(إن) احتاجوا جميعًا يقسم على عدد الرؤوس ثم الحكم ما ذكرنا من الإرث والوقف، وإن استغنى المحتاج لا يعطى له وهذا ظاهر، وإن قصرت الغلة عما يسمى لكل فقير وكان يكفي لأحدهما، فإنه يبدأ بولد الولد؛ لأن حقه قوي يجوز من غير إجازة، وحق ولد الصلب لا يثبت إلا بإجازة الورثة والبداية بالاقوى أولى.

.الفصل الرابع عشر: في الوقف على الموالي والمدبرات وأمهات الأولاد والمماليك:

إذا وقف الرجل أرضه على مواليه وهو رجل من العرب، فالغلة لكل من أعتقه هذا الرجل قبل الوقف ولكل من يعتقه بعد الوقف ولكل من يعتق بعد موته من جهته كمدبرته وأمهات أولاده، فرق بين الوقف والوصية، فإن من أوصى بثلث ماله لمواليه وله مدبرون، وأمهات الأولاد فمات الموصي وعتق هؤلاء بموته، فإنه لاحظ لهم من الوقفية، والفرق وهو أن وجوب الوصية يوم يموت الموصي وولاء المدبر وأم الولد يثبت بعد الموت؛ لأنهم يعتقون بعد الموت فوقت وجوب الوصية لا ولاء، فلا يستحقون الوصية وقت وجوب الوقف (و) يوم حدوث الغلة الولاء ثابت فيستحقون ذلك، وروي عن أبي يوسف في (النوادر): أن أمهات الأولاد والمدبرين وصية أيضًا، وكذلك يدخل في هذا الوقف كل من له أوصي بعتقه بعد موته، وكذلك لو كان أوصي أن يشترى به رقيق بعد وفاته فيعتقون، دخلوا في هذا الوقف، فإن كان لهذا الرجل مولى أعتقهم هذا الرجل وموالي الموالي، فالغلة لمواليه، كما في الولد مع ولد الولد، وهذا لأن مواليه ينسبون إليه بلا واسطة، وموالي الموالي ينسبون إليه بواسطة فكان الاسم لمواليه حقيقة ولموالي الموالي مجازًا، ولو كان له موليان فالغلة لهما بكمالها لأن اسم الموالي ينطلق عليهما، ولو كان له مولى واحد فله نصف الغلة والنصف للفقراء، ولو كان له موال وموليات، فالغلة للكل هكذا ذكر الخصاف وهلال، ومن المشايخ من قال: يجب أن تكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة: لا يكون للموليات شيء، كما لو وقف على بنيه وله بنون وبنات ومنهم من قال: هذا بالإجماع، فيحتاج أبو حنيفة على قول هذا القائل إلى الفرق بين مسألة البنين وبين مسألة الموالي، والفرق: أن اسم الموالي ينطلق على الموليات عند الإنفراد، فإنه يقال: إن موالي فلان جاز أن يشركن (ف) عند الاختلاط أولى.
لقد ذكر محمد رحمه الله في (السير الكبير): إذا استأمن الحربي على مواليه وله موالى وموليات دخلوا في الأمان، وكذلك إذا أوصى لمواليه دخلوا جميعًا في الوصية وأولاد الموالي يدخلون في هذا الوقف لأنهم ينسبون إليه بلا واسطة، وأما أولاد الموليات هل يدخلون في هذا الوقف؟ ذكر الخصاف في (وقفه): أنهم إن كانوا يرجعون بولاء آباءهم إلى الواقف يدخلون، وإن كان ولاء آبائهم إلى قوم آخرين لم يدخلوا فيه، وإن كان له موالي عتاقة فالغلة لموالي العتاق؛ لأن ولاء العتاقة أقوى؛ لأنه متفق عليه وولاء الموالاة مختلف فيه، وسبب ولاء العتاقة لا يحتمل القسم، وسبب ولاء الموالاة يحتمل القسم قبل العقد، وإن لم يكن له إلا موالي موالات، صرفت الغلة إليهم استحسانًا لأنه ليس هاهنا من هو أولى منهم والضعف والقوة إنما تظهر عند المقابلة، والقياس: أن يكون الغلة للفقراء، وإن كان له موالي ولأبيه موال قد ورث هو ولاءهم عن أبيه، فالغلة لمواليه فلا يكون لموالي ابنه شيء، وكذلك إذا لم يكن له إلا موالي ابنه، لا يكون لهم من هذه الغلة شيء، وهذا قياس وهو قول محمد رحمه الله قول نفسه في (الجامع الكبير): فيما إذا أوصى لمواليه وله موالي أبيه قد ورث هو ولاءهم عن أبيه، وعن أبي يوسف وهو لهلال: أنه يصرف إلى موالي أبيه وإنه استحسان، ويرجع الاستحسان إلى العرف، فإن الناس في عرفهم وعادتهم يستجيزون إضافة ولاء من أعتقهم أبناؤهم إلى أنفسهم.
ولو وقف على مواليه وأولادهم ونسلهم فهو على ما قالوا لا يدخل في الوقف، وأولاد بنات مواليه إذا لم يرجعوا بولاء آبائهم إلى الواقف قال: لأنه أثبت بولاء من جملة مواليه فولد الابنة يكون ولد مواليه فيدخل تحت هذا الوقف، قال هلال: ولو كان الواقف قال في عقد الوقف: ونسلهم الذين يرجع ولاءهم إليّ لا يكون لأولاد البنات شيء، لأنه لا يرجع ولاءهم إلى الواقف.
ولو قال: على موالي وموالي موالي وموالي موالي موالي، دخل الفريق الرابع ومن هو أسفل منهم على قياس مسألة الولد، وهي: ما إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده دخل في الوقف الفريق الرابع وهو أسفل.
وإذا وقف على مواليه ثم أقر لإنسان بعد ذلك أنه مولاه قد أعتقه وصدقة الرجل في ذلك دخل في الوقف؛ لأنه ثبت ولاؤه بإقراره؛ لأن إقراره صحيح؛ لأنه يملك إثبات الولاء وإنشاءه بأن يعتق عبدًا، فيملك الإقرار به. قالوا: وما ذكر من الجواب مستقيم في الغلة الجائية غير مستقيم في الغلات التي حدث قبل هذا الإقرار لأن ذلك صار ملكًا لمواليه المعروفين، فلا يصدق في إقراره في حق إبطال ملكهم عليهم،، فإن كان هذا الرجل من الموالي وله موال اعتقوه وموال أعتقهم، فإنه لا يعطي الفريقين من الغلة شيئًا وتكون الغلة للفقراء، وهكذا روي عن أصحابنا في الوصية إذا أوصى بثلث ماله لمواليه وله موال أعتقوه وموال أعتقهم، فالثلث يرد على الورثة ولا يعطي الفريقين منه شيئًا.
واذا وقف على أمهات أولاده وله أمهات أولاد باقيات عنده، وأمهات أولاد قد كان اعتقهن، وأمهات أولاد لم يعتقهن ولكن زوجهن دخل تحت الوقف أمهات أولاد اللاتي لم يعتقهن من كن عنده ومن كان زوجهن، ولا يدخل تحت الوقف من أعتقهن وهو قول محمد، وعن أبي يوسف أنه قال: القياس في هذا على وجهين أحدهما ما قال محمد، والثاني أن الثلث لهن جميعًا من كان أعتقهن ولم يعتقهن؛ لأن الكل أم ولد، وكذلك الجواب فيما إذا وقف على أمهات أولاد زيد ومدبراته دخل تحت الوقف أمهات أولاده ومدبراته اللاتي لم يعتقهن دون من كان أعتقهن.
وإن قال على أمهات أولاد زيد وعلى مولياته، ولزيد أمهات أولاد قد كان أعتقهن وأمهات أولاد لم يعتقهن قسمت الغلة بين أمهات أولاده وبين مولياته اللاتي كان أْتقهن ويدخل اللاتي لم يعتقهن.
ولو وقف أرضه على سالم غلام زيد ومن بعده على المساكين، فباع زيد سالمًا فالغلة لسالم تدور معه كيف دار، فإن ملك الواقف سالمًا بطل الوقف عن سالم. ولو قال: على سالم مملوكي ومن بعده على المساكين فالغلة للمساكين ولا يكون لسالم ولا للواقف من ذلك شيء. ثم فرق بينما إذا وقف على مملوكه فلم يجوزه وبينما إذا وقف على أمهات أولاده ومدبراته فجوزه وهن من مماليكه، وأشار محمد إلى الفرق فقال: لأن فيهن ضربًا من العتق.

.الفصل الخامس عشر: في وقف المريض:

إذا وقف الرجل أرضه في مرضه على الفقراء والمساكين فالوقف جائز من الثلث؛ لأنه تبرع والتبرع من المريض بمنزله الوصية المضافة إلى ما بعد الموت، فيعتبر من الثلث، كما لو أوصى بأن توقف أرضه بعد وفاته، فإنه يعتبر من الثلث كذا هاهنا، فإن كانت الأرض الموقوفة لا يخرج من الثلث بأن لم يكن له مال يخرج سوى هذه الأرض يجوز الوقف في ثلث الأرض، ويبطل في الثلثين إلا أن يجيز الورثة. وفرق بينه وبين العتق إذا لم يخرج العبد من الثلث لا يرد شيء من العبد إلى الرق ولكن يسعى في الباقي؛ لأن العتق لا يمكن فسخه ورفعه بخلاف الوقف؛ لأنه يمكن فسخه بعد موته، فجاز أن يبطل في الباقي.
وإذا جعل أرضه صدقة موقوفة لله تعالى أبدًا على ولده وولد ولده ونسله أبدًا ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فإن كانت هذه الأرض تخرج من الثلث صارت موقوفة تشتغل ثم تقسم غلتها على جميع الورثة على سهام الميراث حتى أنه إذا كان له زوجة وأولاد يعطى لها الثمن، ولو كان له زوجة وأولاد يعطى لهما السدسان، ويقسم الباقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه استثنى الغلة من الفقراء وجعلها لولده والاستثناء صحيح، أما ما يجعل للولد غير صحيح؛ لأنه لا وصية للوارث إلا بإجازة باقي الورثة، فكان استحقاق الغلة في حقهم بحكم الإرث، فتكون القسمة على سهام الميراث، وهذا إذا كان له أولاد لصلبه ولم يكن معهم أولاد، فإن كان معهم أولاد الأولاد، والباقي بحاله، فإنه يقسم الغلة على عدد رؤوس أولاد الصلب وعلى عدد رؤوس أولاد الأولاد، فما أصاب أولاده لصلبه من ذلك قسم بين ورثته على فرائض الله تعالى نحو ما بينا، وما أصاب أولاد الأولاد يقسم بينهم بالسوية؛ لأنه صح جعله لولد الولد؛ لأن الوصية لهم صحيحة، فيستحقون نصيبهم بحكم الوقف وفي الوقف لا تفضيل للبعض على البعض، فاذا انقرض أولاد الصلب قسمت الغلة على أولاد أولاده ونسله ولا يكون لزوجه ولا لأبويه من ذلك؛ لأنهم يستحقون بحكم الوصية والوقف لا بحكم الإرث، وإن كانت هذه الأرض لا يخرج من الثلث، فإن أجازت الورثة جاز وتكون الغلة بينهم بالسوية لا يفضل الذكر على الأنثى؛ لأن في هذه الصورة صح جعل الوقف للأولاد؛ لأن الوصية للوارث صحيحة إذا أجاز باقي الورثة ذلك فيستحقون الغلة في هذه الصورة بحكم الوقف، فيكون بينهم بالسوية؛ لأنه لا تفضيل في الوقف، ولا يكون للأبوين والزوجة من ذلك شيء؛ لأن الوصية وقعت للأولاد لا غير، وإن لم يجيزوا الوقف جاز الوقف من الثلث وصار ثلث الرقبة وقفًا للفقراء، وتقسم الغلة بين جملة الورثة على فرائض الله؛ لأن جعل الغلة للأولاد لم يصح لما لم يجز الورثة الوقف، أما استثناء الغلة من الفقراء قد صح، فتقسم الغلة بحكم الميراث فتقسم على سهام الميراث، وهذا الذي ذكرنا قول هلال والقاضي أبي بكر الخصاف والفقيه أبي بكر الاعمش والفقيه أبي بكر الإسكاف. وقال محمد بن سلمة ونصير بن يحيى رحمهما الله: إذا لم يُجْيزوا الوقف كانت الغلة للفقراء. ووجه ذلك: أن الأرض صارت وقفا للفقراء، والغلة تبع للأرض إلا أنه آثر بالغلة ولم يصح الإيثار لعدم الإجازة، فصار وجود هذا الإيثار والعدم بمنزلة فيكون للفقراء.
وقال علي بن أحمد الفارسي وأبو نصر بن محمد بن سلام رحمهما الله الغلة تكون للفقراء وإن أجازت الورثة الوقف؛ لأن إجازة الورثة إنما يعمل في إبطال حقهم لا في إبطال حق الفقراء وقد صارت الغلة حقًا للفقراء تبعًا للأرض، فلا يعمل إجازتهم في حقهم، ألا ترى أنه لو عدمت الإجازة كانت الغلة للفقراء، فلا يبطل حقهم بإجازة الورثة، ألا ترى أن حق الموصى له لا تبطل بإجازة الورثة حتى إن من أوصى بثلث ماله وأوصى لوارثه مع ذلك وأجازت الورثة لا يعمل إجازتهم في حق الموصي لها بالثلث، فكذا في حق الفقراء.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله إذا أجازوا ينبغي أن يكون ثلث الغلة للفقراء والثلثان للأولاد؛ لأن قدر الثلث حق للفقراء تبعًا للأرض في حق الورثة، والإجازة فيما وراء الثلث لاقت حق الورثة لاحق الفقراء فتعمل إجازتهم فيه، ويكون ذلك للأولاد.
وإن وقف أرضه على قرابته، فإن كانت قرابته ورثة له، فهذا وما لو كان الوقف على الولد سواء، وإن لم يكونوا ورثة لهم جاز الوقف عليهم ويستحقون الغلة بجهة الوصية، وإن وقف على بعض ورثته دون البعض، فإن أجازوا (جاز) لما قلنا، وإن لم يجيزوا صارت الأرض وقفًا للفقراء من الثلث وتكون الغلة على قول هلال ومن تابعه للورثة على قدر مواريثهم، فإن مات الوارث الموقوف عليه، فالغلة للفقراء؛ لأن استثناء الغلة من الفقراء قد بطل بموت الموقوف عليه فعادت الغلة إلى الفقراء تبعًا للأرض، وإن مات بعض ورثة الواقف لأن الوارث الموقوف عليه حي فالغلة لجميع الورثة، ومن مات فنصيبه يصير ميراثًا لورثته.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي ونسلي، وآخره للفقراء، وأوصي بذلك والأرض تخرج من ثلث المال، فإن أجازوا قسمت الغلة بين الولد وبين ولد الولد على عدد رؤوسهم، فما أصاب ولد الولد يقسم بينهم بالسوية، وما أصاب ولد الصلب فهو ميراث بين جميع الورثة لما مر. وإن هلك بعض ولد الصلب وبعض ولد الولد ينظر إلى عددهم يوم تحدث الغلة ما أصاب ولد الصلب يقسم على جميع ورثة الواقف يوم مات الواقف على قدر ميراثهم ثم حصة الميت منهم تكون لورثته؛ لأن الاستحقاق في هذه الصورة في حق أولاد الصلب بحكم الميراث، فينظر إلى من كان موجودًا يوم موت الواقف، فإن انقرض ولد الصلب كلهم، فالغلة لولد الولد والنسل ولا شيء لسائر الورثة؛ لأن الاستحقاق في ولد الولد والنسل بحكم الوقف ولا حصة لسائر الورثة من هذا الوقف.
ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على من احتاج من ولدي ونسله ما تناسلوا وأخره للفقراء فهو جائز من الثلث، فإن كانوا جميعًا أغنياء فالغلة للفقراء، وإن كان ولد الولد فقيرًا فالغلة له واحدًا كان أو اثنين أو أكثر، فإن كان ولد الصلب فقيرًا كانت الغلة بين جميع الورثة على فرائض الله، وإن كان بعض ولد الصلب فقيرًا وبعض ولد الولد فقيرًا قسمت الغلة بينهم على عدد رؤوسهم ثم حصة ولد الصلب تكون ميراثًا بين ورثة الواقف جملة، وحصة ولد الولد تكون له.
ولو وقف أرضه في مرض موته وأوصى بوصايا قسمت ثلث ماله بين الوقف وبين سائر الوصايا فيضرب لأهل الوصايا ولأهل الوقف بقيمة هذه الأرض، فما أصاب أهل الوصايا أخذوه وما أصاب قيمة أرض الوقف أخرج من الأرض بذلك المقدار فصار ذلك وقفًا على من وقف عليهم ولا يكون الوقف المبعد أولى.
ولو كان مكان الوقف عتقًا موقعًا في مرضه، بأن أعتق عبيدًا له في مرضه وأوصى بوصايا أو كان له مدبرون حتى عتقوًا بموته، فإنه يبدأ بعتق من أعتق من عبيده ويعتق من كان مدبرًا، فيخرج قيمتها من ثلث ماله ويصرف ما بقي من الثلث إلى أصحاب الوصايا.
ولو قال: أرضي هذه صدقة على قرابتي بعد وفاتي يكون وصية بغير الأرض لقرابته. ولو قال: موقوفة على قرابتي بعد وفاتي تكون وصية بغلة الأرض لقرابته، والفرق أن الصدقة توجب زوال ملك الرقبة، والوقف لا يوجب زوال ملك الرقبة. فإذا قال: موقوفة أن قضي أن يكون باقية على ملكه ونصرف عليها إلى القرابة، بخلاف ما إذا قال: صدقة.
ولو قال: أرضي هذه تعطى غلتها بعد وفاتي لولد عبد الله ونسله وتكون وصية بالغلة، ولو قال: أرضي بعد وفاتي موقوفة على المساكين أوحبس على المساكين، فهذا الوقف جائز ومن بعدهم جعل الغلة للورثة فالغلة تكون للقوم الذين جعل لهم، فإذا انقرضوا كانت الغلة للورثة على قدر مواريثهم، فإذا ماتوا كانت الغلة للفقراء، هكذا ذكر هلال في (وقفه)، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: يجب أن تكون الغلة بعد ذلك القوم للفقراء،؛ لأنه قال: ومن بعدهم للورثة ولم يبين أن المراد ورثة القوم أو ورثه نفسه، فوقع الشك في الاستحقاق: للورثة فلا يثبت الاستحقاق والجواب أن الواقف ذكر الورثة بالألف واللام، وإنه لتعريف العهد، ومعهود الواقف ورثته وقد مر جنس هذا.
و(لو) قال: أرضي هذه بعد وفاتي صدقة يتصدق بعينها أو يباع ويتصدق بثمنها؛ لأنه نص على الصدقة، والصدقة للفقراء، فلا يكون فيها جهالة.
إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على الفقراء أوصى بذلك بعد موته والأرض لا يخرج من الثلث حتى جاز في ثلث الأرض وبطل في الثلثين على ما مر، ثم ظهر للميت مال يخرج الأرض من الثلث بأن كان قيمة الأرض ألف درهم وظهر للميت ألفا درهم صار كل الأرض وقفًا، وإن ظهر له ألف درهم صار ثلثا الأرض وقفًا وبطل الثلث؛ لأنه يظهر أن ثلث ماله ثلثا الأرض، وإن كان القاضي حين أبطل الوقف في الثلثين تصرف الورثة؛ لأنه في الثلثين بالبيع أو الهبة ثم ظهر للميت مال ذكر هلال في (وقفه) أن بيع الورثة جائز ولا ينقض، هكذا ذكر الخصاف في (وقفه)، وعلل فقال: من قبل أن القاضي أطلق لهم (التصرف) بهذين الثلثين وملكهم إياه، فكان تصرفهم بناء على الملك والإطلاق الشرعي، ولكن الورثة يغرمون قيمة الثلثين فيشترى بها أرضٌ أخرى توقف، لا أنهم استهلكوا ذلك بتصرفهم فيضمنون، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: ينبغي أن ينقض بيع الورثة؛ لأنه إنما ينفذ بيعهم في الثلثين على تقدير أنه ملكهم، فإن الوقف فيه لم يصح وقد ظهر أن الوقف قد صح فيه.
واستشهد الخصاف في (وقفه) لإيضاح قوله بمسألة الوصية فقال: ألا ترى أن رجلًا لو أوصى بأرض له لرجل وليس له مال ظاهر غيره هذه الورثة وأبى الورثة أن يجيزوا ذلك فرفعوا إلى القاضي ورد القاضي الثلثين على الورثة، ثم إن الورثة باعوا ذلك ثم ظهر للميت مال يخرج كل الأرض من الثلث، فإنه لا يرد بيعهم ويضمنون للموصى له قيمة ثلثي الأرض كذا هنا، هذا إذا ظهر للميت مال، ولو حصل للميت مال بأن قتل الواقف عمدًا ثم إن الورثة صالحوا القاتل على مال لا ينقض البيع بالإتفاق إذ لا يتبين أن الملك لم يكن للورثة في الثلثين، ولو كان باع بعض الورثة دون البعض فما لم يبع يعود وقفًا وما بيع يشترى بقيمته أرض ويوقف اعتبارًا للبعض بالكل، ولو كان على الواقف دين فباع القاضي الأرض بالدين ثم يظهر للميت مال كثير،، فإن بيع القاضي لا يرد ولكن يؤخذ من المال الذي ظهر مقدار الثمن الذي باع القاضي الأرض به، ويشتري بذلك أرضًا أخرى، لقد اعتبر الثمن، ولم يعتبر القيمة حتى لو كانت قيمة الأرض ألف درهم، أو أقل أو أكثر، والقاضي باع الأرض بألف درهم وخمسمائة، يؤخذ من المال الذي ظهر قدر ألف وخمسمائة، وفي حق الورثة اعتبر القيمة ولم يعتبر الثمن.
والفرق: أن القاضي لا يلحقه العهدة فلا يمكن إيجاب القيمة؛ لأنه ينقل حق أرباب الوقف عن العين إلى الثمن، بولاية شرعية فصح النقل بخلاف الورثة؛ لأن إيجاب القيمة عليهم ممكن، روى المعلى عن أبي يوسف: أنه يعتبر القيمة في الموضعين جميعًا؛ لأنه ظهر أنه استهلك على الأرباب أرضهم كالورثة إلا أنه تعذر إيجاب ضمان القاضي فيجب في المال الذي ظهر.
إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي ونسلي فمن هلك من ولدي لصلبي فما كان نصيبه بالإرث فهو وقف على ولد ولدي فهو جائز ويقسم الغلة على عدد رؤوس ولد الولد وعلى عدد رؤوس ولد الصلب الأحياء ومن هلك بعد موت الواقف فما أصاب الميت من ولد الصلب يكون وقفًا على ولد الولد؛ لأنه وقف عليهم فالوصية لهم صحيحة ثم ما يصيب الأحياء يقسم بينهم وبين الأموات فما أصاب الأموات يكون لورثتهم بالإرث عنهم، فإن أرادا الواقف أن يجعل ذلك وقفًا على ولد الولد ونسله فقال: وما يصيب الميت منهم من حصة ولدي الأحياء فهو وقف على ولد ولدي فهذا لا يجوز؛ لأنا لوجوزنا ذلك فما يصيبه يصير وقفًا ويخرج من أن يكون ميراثًا وقد بقي في يد الأحياء شيء من الميراث فلا يختصون به فيؤخذ منهم شيء من ذلك ثم يصير ذلك وقفًا فيرجع في الباقي حتى لا يبقى في أيديهم شيء، وذلك لا يجوز.
إذا قال في مرضه: أرضي هذه صدقة موقوفة على ابني فلان، فإن مات فهي موقوفة على ولد ولدي فلم يجز الورثة ذلك فهو ميراث بين جميع ورثته ما دام الابن الموقوف عليه حيًا،، فإن مات صار كله للنسل؛ لأنه وقف عليهم والوقف عليهم صحيح إلا أنه إنما وقف عليهم بعد موت الابن فلا يستحقون شيئًا حال حياة الابن، إذا وقف أرضه في مرضه على ولده وولد ولده ولا مال له سوى الأرض فثلث الأرض وقف على ولد الولد أجازت الورثة أو لم يجيزوا؛ لأن ولد الولد أهل الوصية والوصية إن هو أهل للوصية صحيحة بقدر الثلث أجازت الورثة أو لم يجيزوا، وإما الثلثان، فإن لم يجز الورثة ذلك فذاك ملك الورثة، وإن أجازوا فذاك بين ولد الصلب وبين ولد الولد.
إذا وقف أرضه في مرضه وقفًا صحيحًا، وله مال يخرج هذه الأرض من ثلثه فتلف المال قبل موته ثم مات ولا مال له غير هذه الأرض،، فإن ثلثها وقف وثلثاها لا، وكذلك إن مات الواقف والمال قائم فتلف المال قبل أن يصل إلى الورثة، فإنه يجوز ذلك من الثلث، والثلثان يكون للورثة قال الخصاف في وقفه: إذا أوصى أن يكون أرضه صدقة موقوفة بعد وفاتي فحدث في الأرض ثمرة قبل وفاته، ثم توفي فإن الثمر تكون ميراثًا والأرض يكون وقفًا، فإن حدثت الثمرة بعد وفاته، فإن كانت الأرض والثمرة يخرجان من الثلث، فذلك كله وقف عليه، ولو وقف الأرض في مرضه وقفًا صحيحًا وحدث فيها ثمرة قبل وفاته، فإن الثمرة يكون وقفًا مع الأرض، ولو كان فيها ثمرة يوم وقفها وهو مريض فالثمرة ميراث لورثته.
وإذا قال المريض: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى، أبدًا على زيد وولده وولد ولده أبدًا ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فإن احتاج ولدي أو ولد ولدي كانت غلة هذه الأرض لهم دون غيرهم، وكانوا أحق بها ما كانوا محتاجين إليه، فإن احتاج إليه ولد لصلبه بعد وفاته وجميع الغلة إليهم ودخل فيها سائر الورثة فيقسم الغلة عليهم جميعًا، وإن مات بعض ورثة الواقف مثل زوجه أو أمه ثم احتاج ولده لصلبه ردت الغلة إليهم، وقسمت بين المحتاجين من ولده وبين من كان باقيًا من الورثة ولا ينظر إلى من مات منهم، فإن كان له مال، فإن احتاج أحد من ولد الصلبي أجري على من احتاج من غلة هذه الصدقة مقسومًا بين أهل الوقف فهو جائز، فإن احتاج خمس أنفس من ولده نظر إلى ما يسعهم لنفقاتهم سنة إلى إدراك الغلة المستقبلة فإن بلغ ذلك مثلًا مائة دينار تقسم هذه المئة بينهم، ومن سائر ورثة الواقف، فإذا قسمنا ذلك أصاب المحتاجين منهم أقل مما يسعهم لنفقة سنة ويرد عليهم من غلة هذا الوقف ما يصيبهم من ذلك مقدار مئة دينار، ثم لابد من بيان مقدار نفقاتهم قال الخصاف: ينظر إلى ما يحتاج النظر إليه منهم لطعامه وطعام ولده وخادمه وزوجته وإدامهم وكسوتهم لسنة فيجعل ذلك الغلة لهم والله أعلم.

.الفصل السادس عشر: في الرجل يقف أرضه على وجوه سماها كيف يقسم غلة:

إذا وقف أرضه صدقة موقوفة على عبد الله وزيد، فالغلة لهما ولو ماتا كانت الغلة كلها للفقراء؛ لأن قوله صدقة موقوفة جعل الأرض للفقراء، وبقوله على عبد الله وزيد استثنى الغلة لهما ما عاشا فإذا ماتا بطل الاستثناء وعادت الغلة إلى الفقراء، وإذا مات أحدهما، فإن النصف للفقراء اعتبارًا للبعض بالكل، وإن سمى جماعة قسمت الغلة بينهم على عدد رؤوسهم، فإن مات حصته للفقراء والباقي لمن بقي منهم.
ولو قال: على ولد عبد الله ولم يسمي فما بقي من ولد عبد الله أحد لم يكن للفقراء؛ لأن اسم الولد عام يتناول الواحد والجماعة فما بقي أحد فالاسم يتناوله فتكون الغلة له بخلاف ما لو قال: على ولد عبد الله فلان وفلان وفلان فمات أحدهما كان نصف الغلة للفقراء؛ لأن الكلام إذا تعقبه تفسير كان الحكم له فصار كأنه وقف على فلان، ولو قال: على زيد وعمرو لزيد ثلثه كان لزيد الثلث ولعمرو الثلثان؛ لأن في الابتداء أوجب لهما وأنه يحتمل المثالثة والمناصفة وتأخر الكلام بين أنه أراد المثالثة إذا سمي ثلثه وبين نصيب الاثنين وسكت عن الثالث كان الباقي للثالث، وكذلك إذا سمى جماعة وذكر لبعضهم أرزاقًا معلومة، فإنه يعطي ما سمى إن سمي، والباقي إن لم يسم، ولو سمى زيدًا وعمرًا وجعل النصف لزيد والثلثان لعمرو، فإنه يقسم على سبعة على طريق العول لزيد ثلاثة ولعمرو أربعة على قياس الفرائض، ولو قال: لزيد النصف ولعمرو الثلث يعطى لكل واحد ما سمى، والباقي بينهما نصفان؛ لأنه في الابتداء أضاف إليهما على السواء فيقتضي التسوية بينهما إلا بقدر ما وجد التفصيل يعتبر الإضافة السابقة فيكون بينهما، وكذلك إن سمى جماعة وسمى لكل واحد منهم شيئا،، فإن زادت الغلة على (ما) سمى كانت الزيادة بينهم على التسوية، وإن نقصت يتضاربون بما سمى لهم.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة لعبد الله من غلاتها مئة درهم ولزيد مئتان فزادت الغلة فالغلة الزائدة تكون للفقراء ولا يكون بينهما بخلاف المسألة الأولى؛ لأنه أطلق الوقف حيث قال: أرضي صدقة موقوفة، لو اقتصر عليه كانت الغلة للفقراء فلما قال: لعبد الله من غلاتها مئة درهم ولزيد مئتان فقد استثنى هذ القدر عن حق الفقراء فما بقي يبقى على أصل الوقف، أما في المسألة الأولى جعل الوقف على عبد الله، وزيد ثم فضل أحدهما على الآخر فما بعد التفضيل يصرف إليهما على السواء قضية للإيجاب واعتبر هذا بالوصية، فإن من قال: أوصيه بثلث مالي لزيد وعمرو، ولزيد منه مئة ولعمرو مئتان وثلث ماله خمس مئة يعطي زيدًا مئة وعمرو مئتان وما بقي يكون بينهما.
ولو قال: أوصيت لزيد بمئة من ثلث مالي ولعمرو بمئتين، وثلث ماله خمس مئة كان الباقي للورثة إلا أن فرق بين الوصية والوقف أن الباقي في الوصية يصرف إلى الورثة وفي الوقف يصرف إلى الفقراء، أما فيما عدا ذلك يستويان، ولو قال: صدقة موقوفة على أن لزيد مئة ولعمرو ما بقي فلم يكن الغلة إلا مئة فلا شيء لعمرو؛ لأن نصيب زيد معلوم ومسمى (ونصيب) عمرو مجهول ولا معارضة بين المعلوم المسمى وبين المجهول. ولو قال: صدقة موقوفة لعبد الله نصفها ولزيد منها مئة يعطى عبد الله نصفها ويعطى زيد من النصف الباقي والفضل للفقراء، ولو لم تكن الغلة كلها لزيد ولا شيء لعبد الله، لو كانت الغلة مئتا درهم فلعبد الله مئة ولزيد مئة ولا شيء للفقراء لو كانت الغلة مئة وخمسين فلزيد مئة وما بقي فلعبد الله؛ لأنه لو قال: على عبد الله وزيد لزيد مئة كان زيد مقدمًا على عبد الله؛ لأن نصيب زيد معلوم ونصيب عبد الله مجهول وكما أن الكل مجهول فالنصف أيضا مجهول، فإذا قال لزيد: مئة ولعبد الله نصفها بأن زيدًا مقدم أيضًا قال هلال رحمه الله: وفي المسألة قول آخر إذا قال لعبد الله: نصفها ولزيد مئة والغلة مئة فزيد يضرب بمئة وعبد الله بخمسين فيقتسمان كذلك حتى يكون ما يصيب زيدًا مئة فحينئذٍ يعطى زيد مئة وعبد الله النصف والفضل يكون للفقراء، ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء قرابتي يعطى كل واحد منهم في طعامه وكسوته ما يكفيه بالمعروف قال: ويتحاصون في ذلك يضرب كل واحد منهم بما يكفيه، وهذا لأن الكفاية في نفسها مختلفة، من الناس من يكفيه القليل ومنهم يكفيه الكثير، ومنهم من له عيال، فإن وفى الغلة بكفايتهم يعطى كل واحد منهم كفايته، وإن نقصت يتضاربون بذلك، وإن فضلت الغلة على كفايتهم كان الفضل مقسومًا بينهم على عدد رؤوسهم ولو قال: أرضي صدقة موقوفة فما أخرج الله تعالى من غلاتها أعطي من ذلك كل فقير من قرابته في كل سنة ما يكفيه من طعامه وكسوته بالمعروف ففضلت الغلة على ذلك، فالفضل يكون للفقراء بخلاف الفصل الأول؛ لأن الفصل الأول وقف على فقراء قرابتيه، وفي الفصل الثاني أطلق الوقف لو اقتصر على قوله صدقة موقوفة كانت الغلة للفقراء وقد قررنا هذا الفرق في أول هذا الفصل.
ولو قال: أرضي صدقة موقوفة فما يخرج من غلاتها فلزيد وعبد الله ألف درهم، لعبد الله من ذلك مئة فخرج من غلاتها ألف درهم كان لعبد الله مئة والباقي لزيد؛ لأنه جعل الألف لهما ثم بين نصيب أحدهما فيكون ذلك بيانًا أن الباقي للآخر، فإن خرجت خمس مئة قسمت الخمس مئة بينهم على عشرة أسهم؛ لأنه أوجب الألف لهم على عشرة لما بين لزيد مئة.
ولو قال: ما أخرج الله تعالى من غلاتها يخرج منها كل سنة ألف درهم يعطى منها عبد الله مئة ولزيد ما بقي فنقصت الغلة عن ألف يبدأ بعبد الله فيعطى منها مئة، فإن بقي شيء كان لزيد وإن لم يبق شيء لزيد؛ لأنه في هذه الصورة جعل لزيد الباقي بخلاف الفصل الأول، ولو قال: أرضي صدقة موقوفة فما أخرج الله تعالى من غلاتها فهو لعبد الله والفقراء والمساكين فعلى قول أبي يوسف وهو قول هلال النصف لعبد الله والنصف للفقراء والمساكين عندهما جنس واحد، واسم الجنس يقع على الواحد فكأنه وقف على عبد الله وزيد، وأما قول أبي حنيفة يكون ثلث الغلة لعبد الله والثلث للفقراء والثلث للمساكين؛ لأن عنده الفقراء والمساكين جنسان مختلفان واسم الجنس يقع على الواحد، فكأنه وقف على ثلاثة نفر، وأما عند محمد فالغلة تكون على خمسة (أسهم)، سهم لعبد الله، وسهمان للفقراء وسهمان للمساكين؛ لأن عنده الفقراء والمساكين جنسان كل واحد منهما اسم جمع، وإن قل ما ينطلق عليه اسم الجمع في الوصايا المثنى.
والوقف نظير الوصايا أصل المسألة ما ذكر في (الجامع الصغير): إذا أوصى بثلث ماله لأمهات أولاده ومن ثلثه للفقراء والمساكين فعلى قول أبي حنيفة يقسم ثلث ماله على خمسة (أسهم)، سهم للفقراء وسهم للمساكين وثلاثة أسهم لأمهات أولاده وعلى قول أبي يوسف يقسم ثلث ماله على أربعة أسهم سهم للفقراء والمساكين وثلاثة أسهم لأمهات أولاده، على قول محمد يقسم ثلث ماله على سبعة أسهم، سهمان للفقراء وسهمان للمساكين وثلاثة أسهم لأمهات أولاده.
ثم لابد من تفسير الفقراء والمساكين على قول من يقول بأنهما جنسان وقد اختلفوا فيه بعضهم قالوا: الفقير الذي يسأل والمسكين الذي لا يسأل وقال بعضهم: على عكس هذا وقال بعضهم: الفقير الذي له شيء والمسكين الذي لا شيء له وقال بعضهم: الفقير الذي به زمانه والمسكين الذي لا زمانة له ولو قال فما أخرج الله تعالى من الغلة فلقرابتي والمساكين، فعلى قول أصحابنا يضرب كل واحد من القرابة بسهم؛ لأنهم معينون ويضرب المساكين بسهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهلال وعند محمد يضرب كل واحد من الجيران من الموات بسهم والمساكين بسهم وعند محمد بسهمين.
ولو قال: للفقراء والغارمين وفي سبيل الله وفي الرقاب يضرب كل فريق من هؤلاء بسهمين عند محمد وعند أبي يوسف، ولو قال: صدقة موقوفة في وجوه الصدقات الأصناف المذكورة في كتاب الله تعالى في آية الزكاة إلا أن في الوقف لا يعطى العاملين لا ما يأخذه العامل عمالة ولا عمالة في الوقف والمؤلفة قلوبهم قد ذهبوا فيقتسم الآن على الفقراء والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل وفي الرقاب.

.الفصل السابع عشر: في الرجل يقف أرضه على قوم فلا يقبلون أو يقبل بعضهم دون بعض أو يكون بعضهم حيًا وبعضهم ميتا:

إذا قال: أرضي هذه صدقة على عبد الله فقال عبد الله: لا أقبل فالوقف جائز والغلة للفقراء قد ذكرنا غير مرة أن بقوله: أرضي صدقة جعل الأرض للفقراء، وبقوله على عبد الله جعل الغلة حال حياته بطريق الاستثناء عن مخرج حق الفقراء فإذا لم يقبل عبد الله بطل حقه وبطل الاستثناء فبقية الغلة للفقراء بأصل الوقف.
ولو قال: صدقة موقوفة على ولد عبد الله ونسله فأبى رجل من ولد عبد الله أن يقبل فالغلة لمن قبل منهم، ويجعل من لم يقبل بمنزلة الميت هكذا ذكر هلال والخصاف، وذكر الخصاف بعد هذه المسألة مسألة تناقضها من حيث الظاهر فقال: ولو قال: على زيد وعمرو ما عاشا ومن بعدهما على المساكين فقال: زيد قبلت وقال عمرو: لا أقبل قال لزيد: نصف الغلة والنصف الآخر للمساكين وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يكون كل الغلة لزيد.
ووجه التوفيق: أن في المسألة الأولى سمى ولد عبد الله واسم الولد ينطلق على من قبل فجاز، أن يكون كل الغلة له، وفي المسألة الثانية سمى رجلين واسم الرجلين لا ينطلق على قبله، قال هلال في (وقفه) عقيب المسألة التي ذكرها: فرق بين الوقف وبين الوصية، فإن من أوصى بثلثه لولد عبد الله فمات الموصي وولد عبد الله أربعة فلم يقبل واحد منهم عادت حصته إلى ورثة الموصي قال بعض مشايخنا: ولا فرق بين المسألتين من حيث الحقيقة، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، وضع المسألة في الوصية فيما إذا رد واحد منهم بعد الموصي، وبعد موت الموصي وجب الحق لهم لما عرف أن وجوب الحق في باب الوصية يوم موت الموصي فيعمل رد الراد ويبطل حقه ويعود حصته إلى الورثة، ومسألة الوقف محمول على ما إذا رد واحد منهم قبل حدوث الغلة، وقبل حدوث الغلة حق الموقوف عليه غير ثابت، وإنما يثبت بعد ثبوت الغلة فلا يعمل رد من رد بل يجعل كالميت فتكون الغلة للباقي، فهذا القائل يقول: لو ردَّ بعد حدوث الغلة يكون حصته للفقراء كما في الوصية لو رد بعد موت الموصي يكون حصته للورثة، وهذا القائل يقول: لو رد أحد الموصى لهم الوصية قبل موت الموصي لا يعمل ولا يكون حصته للورثة كما في الوقف إذا رد قبل حدوث الغلة، فإذًا على قول هذا القائل لا فرق بين الوصية وبين الوقف.
ومن المشايخ من فرق بين الوصية والوقف فقال في الوقف: وإن رد بعد حدوث الغلة كانت الغلة للذي قبل بكمالها بخلاف الوصية والفرق ما ذكر من وجه التوفيق، ولو قال: صدقة موقوفة على ولد عبد الله ونسله فلم يقبلوا جملة كانت الغلة للفقراء، ولو حدث له ولد بعد ذلك فقبل كانت الغلة له، لأن رد من رد لا يعمل في حقه واسم الولد يقع عليه فتكون الغلة له، فإن أخذ الغلة سنة ثم قال: لا أقبل ليس له ذلك ولا يعمل، رده قال الفقيه أبو جعفر: الجواب صحيح في حق الغلة المأخوذة؛ لأنها صارت ملكا له فلا يملك رده، فأما الغلة التي تحدث بعد هذا فلا ملك له فيها إنما الثابت فيها مجرد الحق، ومجرد الحق يقبل الرد وإن قال: أقبل سنة ولا أقبل فيما سوى ذلك فهو كما قال: ويكون بمنزلة الوصية بالإعتاق إذا قبلها في البعض دون البعض.

.الفصل الثامن عشر: في الرجل يقف على جماعة ثم يستثني بعضهم بصفة خاصة وفي الرجل يقف على جماعة موصوفين فتزول تلك الصفة عن كلهم أو بعضهم:

ذكر في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: إذا وقف وقفًا على أمهات أولاده إلا من يتزوج، فإنه لا شيء لها فتزوجت واحدة منهن فلا شيء لها، فإن طلقها زوجها بعد ذلك فلا شيء لها أيضًا؛ لأنه استثنى من تزوج منهن إلا إذا شرط أن من تزوجت فطلقها زوجها فلها أيضًا؛ لأنه استثنى من هذا المستثني والاستثناء من النفي إثبات.
وكذلك لو وقف على بني فلان إلا من خرج من هذه البلدة فخرج بعضهم ثم عاد فهو على هذين الوجهين أيضًا وكذلك لو وقف على بني فلان فمن يتعلم العلم فترك بعضهم ثم اشتغل فهو على هذين الوجهين.
وفيه ايضًا: رجل وقف أرضه على ساكني مدرسة كذا ولم يقل من طلبة العلم فكذلك الجواب أيضًا؛ لأنه هو المتفاهم حتى لم تكن مدرسة كذا من غير طلبة العلم شيء، فيه أيضًا المتعلم إذا كان لا يختلف إلى الفقهاء فهو على وجهين إما إن كان في المصر أو خرج من المصر، فإن كان في المصر إن اشتغل بكتابة شيء من الفقه لنفسه فيما يحتاج فلا بأس بأن يأخذ الوظيفة؛ لأنه يشتغل بالتعلم؛ لأن هذا من جملة التعلم، وإن اشتغل بشيء آخر لا يأخذ الوظيفة، وإن خرج من المصر إن خرج إلى مسيرة ثلاثة أيام فصاعدًا لا يأخذ وظيفة ما مضى وإن خرج إلى بعض القرى دون مسيرة ثلاثة أيام إن أقام ثمة خمسة عشر يومًا فصاعدًا لا بأس أن يأخذ لما مضى؛ لأن هذه مدة طويلة، وإن أقام دون ذلك إن كان خروجًا لابد له منه كالخروج لطلب القوت فله أن يأخذ، وإن كان خروجًا له منه بد، فإنه لا يأخذ ولا يأخذ منه إذا كانت عنده غلة شهرين أو ثلاثة، فإن زاد على ذلك جاز لغيره أن يأخذ منه.
في (فتاوي الفضل): امرأة أخذت نصيبها من الوقف على وجه الحاجة ثم استغنت إن استغنت قبل حدوث الغلة فعليها أن ترد وإن استغنت بعد حدوث الغلة لا ترد وإن كان ذلك قبل الإدراك؛ لأن الحق إنما يثبت عند حدوث الغلة.
في (فتاوى أهل سمرقند): إذا وقف على أقاربه المقيمين في قرية كذا وجعل آخره للفقراء فانتقل أقاربه من تلك القرية إلى قرية أخرى أو انتقل بعضهم،، فإن كانوا يحصون لا ينقطع وظيفتهم بالانتقال؛ لأنهم مستحقون بأعيانهم فصار كما لو قال لهذا الشاب: فشاخ وإن كانوا لا يحصون تنقطع وظيفتهم بالانتقال فبعد ذلك إن انتقل الكل فالغلة للفقراء، (وإن) انتقل البعض فالغلة كلها لمن لم ينتقل، فلو أنهم رجعوا إلى القرية مقيمين تعود وظيفتهم؛ لأنه أثبت الحق للمقيمين من أقاربه مطلقأ وهو بهذه الصفة، وكذلك إذا وقف على أقربائه في قرية كذا ولم يقل المقيمين وجعل آخره للفقراء فتحول بعضهم إن كانوا يحصون لا ينقطع، وإن كانوا لا يحصون انقطع وظيفة من يحول وتكون الغلة لمن لم يتحول، وإن تحولوا فالغلة للفقراء.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: ومن يأخذ الأجرة من طلبة العلم في يوم لا درس فيه أرجو أن يكون جائزًا. وسئل الفقيه أبو بكر عن الوقف العلوية الساكنين ببلخ، فإن من غاب عنهم ولم يبع مسكنه ولم يتخذ مسكنًا آخر فهو من سكان بلخ، ولم تبطل وظيفته ولا وقفه.

.الفصل التاسع عشر: في المسائل التي تتعلق بالصك وما قدره:

في (مجموع النوازل) سئل شيخ الإسلام: عن رجل وقف دارًا له على أولاده وكتب في الصك وقف فلان على أولاد فلان وفلان بكذا وقفه عليهم وتصدق به عليهم في حال حياته وبعد وفاته قال: هذا يوجب إلغاءه؛ لأن هذا وصية للوارث والوصية باطلة قال: وينبغي أن يحتاط في ذلك فيكتب في حياته وصحته قال: وكذا سمعته عن السيد الإمام الأجل الأستاذ أبو شجاع وهذا الجواب صحيح فيما إذا كان له وارث أخر سوى هؤلاء الذين وقف عليهم، غير صحيح إذا لم يكن له وارث آخر لأن الوصية للوارث إنما لا تجوز لحق باقي الورثة ألا ترى أن باقي الورثة إن أجازوا الوصية كانت الوصية صحيحة.
وسئل أيضًا: عن ذكر وقف كان فيه وقف فلان كذا على مواليه ومدرس مدرسة معلومة، وكان فيه بيان المقادير وشرائط الصحة وجعل آخره للفقراء فأجاب أنه غير صحيح؛ لأنه ذكر الموالي مطلقًا ولم يبين الأعلى والأسفل وكذا لم يبين التركي والهندي والرومي.
في (فتاوى أبي الليث) سئل الفقيه أبو بكر عن رجل وقف ضيعة له وكتب صكًا وشهد الشهود على ما في الصك ثم قال الواقف: إني وقفت على أن يكون.... فيه جائزًا وإن لم أعلم أن الكاتب لم يكتب ذلك ولم أعلم ما في الكتاب قال: إن كان الواقف رجلًا فصيحًا يحسن العربية وقرئ عليه الصك وكتب في الصك وقف صحيح وأقر هو بجميع ما فيه لا يقبل قوله والوقف صحيح وإن كان الواقف أعجميا لا يعرف العربية، فإن شهد الشهود أنه قرئ عليه بالفارسية وأقر بجميع ما فيه لا يقبل قوله أيضًا، وإن لم يشهدوا بذلك قبل قوله إذا عرفت هذا في صك الوقف فكذا في صك البيع والإجارة إذا قال الآجر والبايع: ما علمت المكتوب في الصك.
وفيه أيضًا: سئل الفقيه أبو جعفر عن امرأة قال لها جيرانها اجعلي هذه الدار وقفًا على أنك متى احتجت إلى بيعها تبيعها فأجابت فكتبوا صكًا بغير هذا الشرط وقالوا: قد فعلنا وأشهدت عليها قال: إن قرأ الصك عليها بالفارسية وهي تسمع وأشهدت على ذلك صارت الدار وقفًا، وإن لم يقرأ عليها لا تصير الدار وقفًا؛ لأنها إنما رضيت بالوقف بشرط البيع والوقف بشرط البيع باطل، وما ذكر من الجواب في المسألتين إنما يتأتى على قول محمد؛ لأن على قول محمد الوقف بشرط أن يبيع باطل، أما لا يتأتى على قول أبي يوسف؛ لأن قوله الوقف بشرط أن يبيع صحيح، وقد ذكرنا المسألة في صدر (الكتاب) في الفصل الرابع.
سئل الفقيه أبو بكر عن رجل وقف ضيعة له وكتب بذلك صكًا وأخطأ الكاتب في حدين فكتب حدين كما كانا وكتب حدين بخلاف ذلك قال: إن كان الحدان اللذان غلط في ذكرهما يوجد في ذلك الموضع لكن بين الحدين وبين هذه الضيعة الموقوفة أرض أو كرم أو دار لغير هذا الواقف جاز الوقف ولا يدخل ملك الغير في الوقف؛ لأنه وقف ملكه وملك غيره فصح وقف ملكه ولم يصح وقف ملك غيره، وإن كان الحدان غلط في ذكرهما، لا يوجد في ذلك الموضع أصلًا ولا بالبعد منه فالوقف باطل إلا إذا كانت الضيعة مشهورة مستغنية عن التحديد لشهرتها فيجوز الوقف.
وسئل أبو نصر عمن أراد أن يقف جميع ماله من الضيعة في قرية كذا وأمر بكتابة الصك في مرضه فنسي الكاتب أن يكتب بعض أمره من الأرض والكروم ثم قرئ الصك على الواقف فكان في الصك أن فلانًا وقف ماله من الضياع في هذه القرية وهو كذا فرسخًا على وجه كذا وبين الحدود ولم يقرأ عليه الفراسخ الذي نسي الكاتب لم يصر ذلك وقفًا إلا إذا أخبر الواقف أنه أراد بذلك جميع ماله المذكور وغير المذكور وذلك معلوم فيصير الكل وقفًا.
وفي (مجموع النوازل) سئل شيخ الاسلام رحمه الله عن صك المتولي والموصي إذا لم يذكر فيه جهة وصايته وتوليه أنه لا يصح الصك؛ لأن الوصي قد يكون وصي الأب وقد يكون وصي القاضي وأحكامهم مختلفة والمتولي قد يكون من جهة الواقف وقد يكون من جهة القاضي وأحكامهما مختلفة، فإن كتب أنه أوصي من جهة الحكم متولي من جهة الحكم ولم يسم القاضي الذي ولاه جاز؛ لأنه صار جهة توليته معلومة، وكذلك إذا كتب أنه وصي من جهة الحكم قال الصدر الشهيد في (واقعاته) على هذا القياس، إذا احتيج إلى كتابة القضاء في المجتهدات نحو الوقف وإجارة المشاع، ونحو ذلك فكتب وقد قضي بصحته وجوازه فاقتضى من قضاة المسلمين ولم يسم ذلك القاضي جاز، وإن لم يكن قضى بذلك قاضٍ والكاتب كتب كذلك لا شك أنه يكون كذبًا ولكن لا بأس به فقد ذكر محمد في آخر كتاب الوقف ما يدل عليه، فإنه ذكر إذا خاف الواقف أن يبطله قاضي، فإنه يكتب، وهذا لأن التصرف صحيح في نفسه ولكن يبطل بقضاء القاضي ببطلانه فالكاتب بهذه الكتابة يمنع القاضي عن الإبطال فلا يكون به بأسًا.
وذكر الخصاف في (أدب القاضي) الشهادة على الحقوق، وإن شاهدين شهدا عند القاضي لرجل فقالا: نشهد أن قاضيًا من القضاة أشهدنا أنه قضى لهذا الرجل على هذا الرجل بألف درهم أو بحق من الحقوق وسموه يعني سموا ذلك الحق إن قالوا: نشهد أن قاضي الكوفة أشهدنا بذلك ولم يسموا القاضي لم ينفذ القاضي هذه الشهادة حتى يسموا القاضي الذي حكم وينسبوه لأن القضاء عقد من العقود فلابد من تسمية العاقد لبيانه، قال الخصاف: وليس هذا في هذا الموضع وحده بل في جميع الأفاعيل إذا شهدوا على فعل ولم يسموا الفاعل لا تقبل الشهادة، واختلف المشايخ فيما إذا شهد الشهود على أن هذا وقف على كذا، ولم ينسبوا الواقف هل تقبل هذه الشهادة؟ بعضهم قالوا: تقبل وإليه أشار الخصاف في كتابه.
وصورة ما ذكر الخصاف: إذا قال القاضي المعزول: هذا وقف على كذا، وصدقه ذو اليد أنفذه القاضي المولى ولا يسأل المولى عن المعزول من وقفها، وبعضهم قالوا: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الوقف على أصل أبي حنيفة حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالغلة المعدومة، فإذا شهد الشهود بالوقف، فقد شهدوا بملك الواقف، فلابد من ذكره ليمكن إثبات الملك؛ لأن إثبات الملك للمجهول متعذر، هذا القائل يقول: بأن ما ذكر الخصاف في (أدب القاضي) لا يصح دليلًا؛ لأن ثمة إنما قبل قول القاضي لضرورة مخالفًا للدليل، وهذا لأن (قول) القاضي المعزول: إن هذا وقف وسؤاله عن الواقف ربما يؤدي إلى بطلان الوقف، فإن القاضي المعزول لو قال: وقفها فلان، وجحد ورثة فلان الوقفية، يحتاج إلى إثبات الوقفية وعسى لا يقدر الإثبات، فيؤدي إلى إبطال الوقفية عني، فإنما اكتفي بالإجمال ثمة لهذه الضرورة وهذه الضرورة معدومة في حق الشهادة وقد رأيت في حدود (الأصل) عن محمد أن تسمية الفاعل شرط لقبول الشهادة فيتأمل عند الفتوى.
في (فتاوى أهل سمرقند) استأجر رجل من المتولي أرضًا هي وقف على أرباب معلومين، وكتب في الصك استأجر فلان بن فلان من فلان بن فلان المتولي في الأوقاف المنسوبة إلى فلان المعروف بكذا ولم يكتب اسم أب الواقف وجده ولم يعرف جاز؛ لأنه لو كتب من فلان بن فلان المتولي في كذا، وهو وقف على أرباب معلومين جاز وإن لم يذكر الواقف فهذا أحق.
وسئل الفقيه أبو جعفر عمن في يديه ضيعة، جاء رجل وادعى أنها وقف، وجاء بصك فيه خطوط عدول وحكام قد انقرضوا، وطلب من الحاكم القضاء قال: لا يعتمد الحاكم على الخطوط ولا ينبغي أن يحكم بذلك، وكذلك لو كان لوح مضروب على أرباب دار ينطق بالوقف لا يقضي بها ما لم يشهد الشهود بالوقف.

.الفصل العشرون: في المسائل التي تتعلق بالدعاوى والخصومات والشهادة في باب الوقف:

هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في المسائل التي تعود إلى الاستيلاء على الوقف قال الخصاف في وقفه: إذا أنكر والي الوقف: أي قيم الوقف الوقف فهو غاصب ويخرج من يده، فإن نقص منها بعد الحجر فهو ضامن، ذكر الضمان من غير ذكر الخلاف، بعض مشايخنا قالوا: هذا على قول من يرى ضمان العقار بالغصب، وهو محمد وأبو يوسف أولًا، وبه أخذ الخصاف وهلال بن يحيى، ومنهم من قال: هذا قول الكل لأن أبا حنيفة وأبا يوسف آخرًا إن كانا لا يريان ضمان العقار بالغصب يريان ضمانه بالجحود، ومنهم من قال: إنهما كما لا يريان ضمان العقار بالغصب لا يريان ضمانه بالجحود، وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح أن: في (المبسوط) و(النوادر) في وجوب ضمان العقار بالجحود، عن أبي حنيفة روايتان، وكذلك إن غصبها رجل أجنبي من القيم أو من الواقف، ثم ردها وقد انتقصت يضمن النقصان، وهذا قول محمد وأبي يوسف أولًا قال: ولا يفرق ذلك على أصل الوقف يعني ما أخذ من الغاصب من ضمان النقصان لا يصرف إلى الموقوف عليهم، وإنما يصرف إلى مرمته؛ لأن حقهم في الغلة لا في المرمة وهذا الضمان بدل الرقبة، فإن زاد الغاصب فيها زيادة من عند نفسه، فإن كان شيئا هو ليس بمال ولا له حكم المال، فإن القيم يأخذها بلا شيء، وإن كان مالًا قائمًا نحو الأغراس والبناء أمر الغاصب برفع البناء وقلع الأشجار، إلا إذا كان يضر بالوقف بأن كان يخرب الأرض بقلع الأشجار أو يخرب بناء الوقف بسبب رفع بنائه فحينئذٍ لا يؤمر الغاصب به بل يمنع عنه لو أراد أن يفعل ذلك، ويضمن القيم قيمته من الوقف،، فإن كان عنده غلة فيه كفاية أدى من ذلك، وإن لم يكن مؤاجرًا الوقف ويؤدي أجرته، وإن أراد الغاصب قلع الأشجار من أقصى موضع لا يخرب الأرض، كان له ذلك؛ لأنه ينقض ملك نفسه ولا يضر بغيره، ثم يضمن القيِّم له قيمة ما بقي في الأرض الموقوفة، إن كان الوقف أرضًا فكراها الغاصب وحفر أنهارها لا يرجع بشيء من ذلك ذكره الخصاف في وقفه.
وإن غصب الأرض الموقوفة رجل وقيمتها ألف درهم ثم غصبها من الغاصب رجل آخر بعد ما صار قيمتها ألفي درهم فالقيم لا يبيع الغاصب الأول وإنما يبيع الثاني إذا كان الثاني مليئًا يريد به إذا غصبها رجل آخر من الغاصب الثاني وتعذر استردادها من يد الثالث والوقف يفارق الملك في هذا، وإنما كان هكذا؛ لأن إتباع الثاني انفع في حق الوقف ويختار في الوقف ما هو أنفع وأصلح للوقف، وإن كان الأول أملأ من الثاني يبيع الأول؛ لأن إتباع الأول أنفع لا يصل إلى المال في الحال، وإذا اتبع القيم أحدهما بالضمان برئ الآخر كما في الملك، وإذا أخذ القيمة من أحدهما ثم ردت عليه الأرض رد القيمة وكانت الأرض وقفًا على حالها وليس للغاصب حبسها إلى أن تصل إليه القيمة، والأصل أن مالا يجوز رهنه لا يحبس بالدين، ألا ترى أن من غصب مدبرًا أو أبق من يده وضمن قيمته للمالك ثم عاد من الإباق رد الغاصب المدبر على المالك واسترد منه القيمة وليس للغاصب أن يحبس المدبر بالقيمة بخلاف ما إذا كان المغصوب قنًا وأبق من يد الغاصب وأخذ المالك الضمان بزعم الغاصب ثم عاد من الإباق حتى كان للمالك أن يرد القيمة ويأخذ المغصوب كان للغاصب أن يحبسه حتى يستوفي، القيمة وإن ضاعت القيمة في يد القيم قبل أن يشتري بها أرضًا أخرى ثم ردت الأرض الوقف عليه كانت وقفًا وضمن القيمة التي أخذها من مال نفسه، ثم يرجع القيم بذلك في غلات الوقف استحسانًا؛ لأن القيم كان عاملًا لأرباب الوقف في أخذ القيمة فما لحقه من الضمان بسبب ذلك يكون على أرباب الوقف كما في الوكيل إذا باع وقبض الثمن في يده ثم هلك المبيع قبل التسليم حتى انفسخ البيع وضمن الوكيل الثمن للمشتري يرجع بما يضمن على الموكل كذا هنا، ولكن يرجع في غلة الوقف ولا يرجع على الموقوف عليهم في أحوالهم سوى غلة الوقف؛ لأنه إنما جعل أمينًا في غلة الوقف لا في سائر أمواله وهو نظير المزارع إذا غاب فأنفق رب الأرض على الزرع في سقيه وما يحتاج إليه يرجع بذلك في نصيب المزارع لا في سائر أمواله كذا هنا، ولو كان القيم حين أخذ القيمة اشترى بها أرضًا أخرى للوقف ثم ردت الأرض الأولى عليه كانت وقفًا على حالها وخرجت الأرض الأخرى عن الوقفية وكان للقيم أن يبيعها ويوفي من ثمنها القيمة التي قبضها، فإن كان فيها نقصان كان ذلك على القيم في ماله ولا يرجع بذلك غلات الوقف قياسًا واستحسانًا بخلاف ما تقدم؛ لأن في هذا الفصل لما عادت الأرض الأولى إليه وقفًا ظهر أن القيم اشترى الأرض الأخرى لنفسه وقد نقد القيمة في ثمن ما اشترى لنفسه وصار مستهلكًا القيمة في منفعة نفسه فلا يرجع بنقصان ذلك في غلة الوقف، ولو كان الواقف شرط الاستبدال بها فباعها القيم وقبض الثمن فضاع عنده ثم ردت الدار الأولى عليه بعيب بقضاء قاضٍ ضمن القيم الثمن من مال نفسه ثم يبيع الأرض الوقف التي ردت عليه الثمن الذي غرم؛ لأن الواقف شرط بيعها عند العذر وهذا عذر حيث غرم نسبة بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك القيم عاجز عن بيعها؛ لأنها وقف لم يشترط بيعها والاستبدال بها.
إذا غصب الدار الموقوفة أو الأرض الموقوفة فهدم بناء الدار وباع الأشجار كان للقيم أن يضمنه قيمة الأشجار والنخيل والبناء إذا لم يقدر الغاصب على ردها ويضمن قيمة البناء مبنيًا وقيمة الأشجار والنخيل نابتًا في الأرض؛ لأن الغصب ورد هكذا، فإن ضمن الغاصب قيمة ذلك ثم ظهرت الدار والأرض والنقض والأشجار معنى قوله ظهرت الدار قدر الغاصب على رد الدار والنقض والأشجار فالغاصب يرد العرصة على الواقف، وأما النقض والشجر فيكون للغاصب ويرد القيم على الغاصب حصة العرصة ليست بمحل النقل من ملك فلا يملكها الغاصب بالضمان، وأما البناء والأشجار، فإنما لم تكن محلًا للنقل تبعًا للأرض وقد زالت التبعية فعادت محلًا للنقل فيملكها بالضمان، ألا ترى أن البناء لو انهدم ولم يصلح النقض للعمارة كان للقيم أن يبيع النقض ممن رآى بيعه فكذا هنا، وإذا كان في أرض الوقف نخيل وأشجار استغلها الغاصب سنتين يعني الأشجار والنخيل ثم أراد رد الأرض والنخيل والأشجار والغلة معها إن كانت قائمة بعينها، وإن كانت مستهلكة ضمن مثلها وليس هذا كالزرع؛ لأن الزرع ملكه بخلاف غلة النخيل والأشجار وعليه نقصان الأرض وما أخذ من الغاصب من بدل الغلة فرق الوجوه التي سبلها عليه وما أخذ من نقصان الأرض يصرف في عماراتها.
غصب أرض الوقف وفيها نخيل وأشجار فقلع الأشجار والنخيل رجل من يد الغاصب فالقيم بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمة الأشجار والنخيل نابتًا في الأرض، وإن شاء ضمن القالع ذلك،، فإن ضمن الغاصب يرجع بذلك على القالع (وإن ضمن القالع) لم يرجع بذلك على الغاصب، وإن لم يضمن القيمة أحدهما حتى الغاصب القالع وأخذ منه قيمة ما قلع فجاء القيم وأرد تضمين القالع ليس له ذلك، لأن القالع رد القيمة على الذي كانت الأشجار في يده يوم قلعها والله أعلم.
في (فتاوى أبي الليث) رجل وقف ضيعة فغصبها منه إنسان فأقام الواقف البينة قبلت بينته وردت الضيعة عليه بالاتفاق، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأنه لا يقول بصحة الوقف إلا إذا كان يوصي به، أو كان مضافًا إلى ما بعد الموت ولم يوجد فبقيت على ملكه، وأما على قول أبي يوسف، فلأن الوقف عنده صحيح، وإن لم يخرجه من يده وهو أولى بإصلاحها والتولية فيها.
وفيه أيضًا: وقف على نفر ليستولي عليه ظالم ولا يمكن انتزاعه من يده، وادعى بعض الموقوف عليه على واحد منهم أنه باع من هذا الظالم وسلم إليه وأراد تحليف المدعى عليه فلهم ذلك؛ لأنهم ادعوا عليه معنى لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، فإن نكل قضي عليه قيمتها، وكذلك إذا قامت لهم بينة وهو قول أبي يوسف ومحمد والفتوى في غصب الموقوف على الضمان نظرًا للوقف، كما أن الفتوى في غصب منافع الوقف على الضمان نظرًا للوقف، فظن بعض مشايخ ديارنا أن هذه المسألة دليل على أن دعوى الموقوف عليه أن هذا وقف عليه صحيح، وليس الأمر كما ظنوا وهذه المسألة لا تصلح دليلًا؛ لأن الدعوى هنا ما وقع في الوقفية وإنما وقع في غصب الوقف، وإتلافه رجل وقف موضعا في حياته وصحته وأخرجه من يده فاستولى عليه غاصب وحال بينه وبينه، يؤخذ من الغاصب قيمته ويشتري به موضع آخر فيوقف على شرائط؛ لأن الغاصب لمَّا جحد صار مستهلكًا والشيء المسبل إذا صار مستهلكا يجب الاستبدال به كالفرس المسبل في سبيل الله إذا (صار) مستهلكًا فهذا استحسان أخذ به المشايخ.
رجل وقف ضيعة له ثم إن الواقف زرعها وأنفق فيها وأخرجت زرعًا والبذر من قبل الواقف فقال: أنا زرعتها لنفسي ببذري وقال أهل الوقف: إنما زرعتها للوقف فالقول قول الواقف الزارع، والزرع من قبل أن البذر له، فإن سأل أهل الوقف من قبل القاضي أن يخرجها من يده، وإذا كان قد زرعها لنفسه ولم يكن له ذلك لايخرجها من يده ولكن يتقدم إليه في زراعتها للوقف، فإن احتج بأنه ليس للوقف عنده مال ولا بذر قال له القاضي: استدن على الوقف واجعل ما تستدين به في البذر والنفقة على الزرع، فإن قال: لا يمكنني ذلك قال لأهل الوقف استدينوها: أنتم ما تشترون به بذرًا وما يكون في النفقة على ذلك حتى يأخذوا ذلك مما يجيء من الغلة، فإن قالوا: لا نأمن أن نستدين نحن ونشتري البذر وما صار في يد الواقف جحد ذلك ولكن نحن نزرع، فإنه لا ينبغي أن يطلق؛ لأن الذي وقف أحق بالقيام إلا أن يكون مخوفًا عليه لايؤمن أن يبلغه،، فإن زرع الواقف الأرض وأنفق عليه فأصاب الزرع آفة من غرق أو غير ذلك وذهب الزرع فقال الواقف: استدنت وزرعت هذا الزرع الذي أعطت للوقف وجاءت غلة أخرى فأراد أن يأخذ من هذه الغلة ما ذكر أنه استدانه لذلك، وقال أهل الوقف إنما زرع ذلك لنفسه فالقول في ذلك قول الواقف وأن يأخذ هذه الغلة ما استدان لهذا الزرع، فإن قال الواقف: الزارع استدنت ألف درهم واشتريت بها بذرًا وانفقت عليه، وقال أهل الوقف: إنما أنفق من ثمن البذر والنفقة على الزرع خمس مئة قال تصدق الواقف في مقدار ما ينفق على مثل ذلك، فإن اختلف والي الوقف يعني القيم وأهل الوقف في الزرع فقال الوالي: زرعتها لنفسي ببذري ونفقتي وقال أهل الوقف: بل زرعته لنا فالقول قول الوالي والله أعلم.

.نوع منه في المسائل التي يعود إلى الدعوى في الوقف:

رجل باع أرضًا ثم قال: إني كنت وقفتها أو قال: هو وقف علي، فإن لم يكن له بينة وأراد تحليف المدعي عليه ليس له أن يحلفه؛ لأن التحليف يترتب على دعوى صحيحة والدعوى هنا لم تصح لمكان التناقض، وإن أقام البينة قال الفقيه أبو جعفر: قبلت البينة وينقض البيع؛ لأن أكثر ما فيه أن الدعوى لم تصح بقيت الشهادة بلا دعوى إلا أن الشهادة على الوقف مقبولة من غير دعوى كالشهادة على عتق الأمة وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله في (واقعاته) قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقال بعض الناس: لا تقبل البينة لكنا لا نأخذ به.
في (فتاوى النسفي) ادعى مشتري الأرض على بائعه أن هذه الأرض وقف وقد بعتها من بائعه بغير حق قال: ليس له هذه المخاصمة إنما ذلك إلى المتولي وإن لم يكن ثمة متولي فالقاضي ينصب متوليًا فيخاصمه ويثبت الوقفية فإذا ثبت ذلك ظهر بطلان البيع فيشتري المشتري الثمن من بائعه.
وفيه أيضًا: رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنها وقف على من لم يسمع الدعوى منه، وإنما يسمع من المتولي وهذا؛ لأن الوقف عليه مصرف الغلة ولا حق له في الرقبة فلا تصح منه الدعوى في الرقبة، وأشار الخصاف في (وقفه) في مسائل: أن دعواه صحيحة فمن جملة تلك المسائل قال: إذا كانت الأرض في يد الغاصب أقام أهل الوقف بينة أن فلانًا وقفها عليه وأنه مات وهو مالكها لم أقضِ بأنها وقف وإنما أقضي بأنها ملك، علل فقال: لا يجوز إن ملكها بعد وقفها إذ يجوز أنه وقفها ولم يكن يملكها علل بهذه العلة لبيان أن لا يقضي بأنها وقف لا بعلة أنه ليس له ولاية الدعوى.
ومن جملة ذلك قال: قوم ادعوا أرضًا في يدي رجل وقالوا: وقفها فلان علينا والذي في يديه يقول الأرض لي فأقاموا البينة أن فلانًا وقف هذه الأرض عليهم لا يستحقون بهذه البينة شيئًا علّل فقال: لأن الإنسان قد يقف مالا يملك ولم يقل: لأنه ادعى ما ليس له أن يدعي، وكذلك لو أقاموا بينة أنه وقف علينا ومن بعدنا على المساكين وكانت في يده يوم وقفها لا يستحقون بهذا شيئًا، وكذلك لو شهد الشهود أنه أقر عندنا وأشهدنا على نفسه أنه وقف هذه الأرض وقفًا صحيحًا وأنها كانت في يده حتى مات فالقاضي لا يقضي بالوقف، ولو شهد الشهود أن فلانا أقر عندنا أنه وقف هذه الأرض وجددها وإن كان ملكها في وقت ما وقفها، قضينا بأنها وقف من قبل الوقف وأخرجناها من يدي الذي هي في يده، وحلّ المسألة صريح أن الدعوى من الموقوف عليه صحيحة إذا لو لم تكن صحيحة كانت الشهادة في حقوق العباد بدون الدعوى لا تقبل فينبغي أن لا تقبل الشهادة في هذه المسألة.
صاحب الأوقاف إذا أراد أن يسمع الدعوى في أمور الأوقاف ويقضي بالنكول وبالبينة أن ولاه السلطان ذلك نصًا أو عرف ذلك دلالة جاز؛ لأنه كالقاضي المولى، وإن لم يكن شيء من ذلك لا يجوز.
في (فتاوى أبي الليث) ضيعة في يدي رجل وضيعة أخرى في يدي رجل آخر ادعى رجل أن هاتين الضيعتين وقف عليه حده على أولاده وأولاد أولاده أبدًا ماتناسلوا وأحد الرجلين غائب، فأقام المدعي البينة على الحاضر، إن شهد الشهود أنهما ملك الواقف حقهما جميعًا وقفًا واحدًا، وذكر شرائط الوقف قضى القاضي الحاضر بكون الضيعتين وقفًا؛ لأن الحاضر هنا ينتصب خصمًا عن الغائب فصار كأحد الورثة، وإن شهدوا أنه وقف وقفين متفرقين يقضى بوقفية الضيعة التي في يد الحاضر فحسب لأن الحاضر هنا لا ينتصب خصما عن الغائب وفي المسألة نوع إشكال وينبغي أن يقضي بوقفية الضيعة التي في يد الحاضر في الوجهين جميعًا؛ لأنه ألحق هذا بآخذ الورثة.
وذكر في (الجامع) أن أحد الورثة إنما ينتصب خصمًا عن الباقين للمدعي في غير في يد ذلك الوارث، حتى أن من ادعى عينًا في تركة الميت وأحضر وارثا واحدًا ليس العين المدعى في يده، وأقام بينة على دعواه لا تسمع بينته، وفي مسألتنا هذه إحدى الضيعتين في يد الغائب فكيف يقضي بوقفتيهما على الحاضر؟ وعلى قول من يقول بجواز القضاء بوقفية الضيعتين شرط ذكر حدود الضيعة التي في يد الغائب.
ادعى كرمًا في يدي رجل وأقر المدعى عليه أنه وقف الكرم وقفًا صحيحًا بشرائطه للمدعي بينة، وأراد تحليف المدعى عليه إن أراد تحليفه ليأخذ الكرم لو نكل عن اليمين لايحلف؛ لأنه لا يصل إلى ذلك فلا يكون في التحليف فائدة وإن أراد أن يأخذ القيمة لو نكل عن اليمين يحلف؛ لأنه يصل إليه لو نكل ففي التحليف فائدة.
رجل وقف ضيعة له على الفقراء في صحته ثم مات فجاء إنسان وادعى أن الضيعة له وأقر الورثة بذلك لم يبطل الوقف؛ لأن إقرارهم في حق بطلان الوقف غير صحيح ويضمنون قيمة الضيعة من تركة الميت، وهذا الجواب يجب أن يكون قول الكل لا قول محمد خاصة؛ لأنه لا خلاف في ضمان الضيعة بالإتلاف، وإنما الخلاف في وجوب الضمان بالغصب وهذا إتلاف وليس بغصب، وإن أنكر الورثة ذلك فأراد المدعي أن يحلفهم يقال له: تريد تحليفهم لتأخذ الضيعة إن نكلوا أو ليأخذوا القيمة إن نكلوا، فإن قال لآخذ الضيعة فلا يمين له عليهم؛ لأنه لا يصل إلى الضيعة إن نكلوا لما ذكرنا في فصل الإقرار، وإن قال: لآخذ القيمة فله عليهم اليمين؛ لأنه يصل إلى القيمة إن نكلوا فكان التحليف مقيدًا.
في (فتاوى الفضل) بيت فوقه بيت وهو متصل بالمسجد يتصل صف المسجد نصف البيت الأسفل ويصلي في البيت الأسفل في الصيف والشتاء، اختلف أهل المسجد وأرباب البيت الذي يسكنون العلو قال الأرباب: إن ذلك ميراث لنا فالقول قولهم؛ لأن العلو في أيديهم والقول قول صاحب اليد فثبت بقولهم أن العلو ملك لهم لا يصير السفل مسجد؛ لأنه لا يتحقق الشرط وهو الخلوص وسيأتي جنس هذه المسألة في موضعه إن شاء الله تعالى.

.نوع منه في المسائل التي تعود إلى الشهادة والوقف:

إذا شهد شاهدان على رجل أنه وقف أرضه ولم يحدها الشاهدان فالشهادة باطلة، وكذلك إن حدها أحدهما دون الآخر كانت الشهادة باطلة، وكذلك لو شهدا أنه وقف أرضه التي في موضع كذا لو قالا: لم يحدها لنا فالشهادة باطلة قال الخصاف: إلا أن تكون أرضًا مشهورة يعني شهرتها عن تحديدها، فإن كان كذلك قضيت بأنها وقف، وإن حداها بحدين فالمشهور عن أصحابنا أنه لا تقبل ومن أصحابنا من قال: إذا ذكر حدين متقابلين يقبل؛ لأن ما بينهما يصير معروفًا بمعرفتهما إذا كان طرفاها مستويان، وإن حداها بثلاث حدود قبلت الشهادة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله إقامة للأكثر مقام الكل، سئل الخصاف فقيل إذا قبلنا هذه الشهادة بثلاثة حدود كيف يحكم بالحد الرابع؟ قال: أجعل الحد الرابع بإزاء الحد الثالث حتى ينتهي إلى ابتداء الحد الأول أي بإزاء الحد الأول.
وإن شهدا أنه وقف أرضه التي في موضع كذا، وحدها لنا إلا أنا نسينا لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا على أنفسهما بالغفلة. وإن قالا: حدها لنا ولكنا (لا) نعرف الحدود ذكر هلال أن القاضي لا يقبل شهادتهما قال: القاضي الإمام الأستاذ الكبير أبو زيد رحمه الله تأويل هذا أنهما لم يبينا للقاضي أما إذا بيناه وعرفاه يقبل، وذكر الخصاف رحمه الله في هذه الصورة أني أجيز الشهادة وأقضي بالدار والأرض بحدودهما وقفًا وأقول للشهود: سموا الحدود فأقضي بما يسموني ويحدوني. قال هلال: وكذلك لو قالا: لم يكن في المصر إلا تلك الأرض لم تقبل، فأما إذا قالا: أشهدنا أنه وقف هذه الأرض وهو فيها ولم يحدها لنا فالشهادة جائزة إذا كانا يعرفانها. قال القاضي الإمام: تأويل هذا إذا بينا للقاضي وعرفاه، فأما إذا لم يبينا لا يقبل شهادتهما.
وإن شهدا أنه حدها لنا ولكنا لا نذكر الحدود التي حدها لنا فالشهادة باطلة، وإن كانا يعرفان الحدود لكنهما لا يعرفان الأرض؛ لأنهما كانا غائبين عنها يقبل شهادتهما، ويكلف القاضي مدعي الوقف أن يقيم شاهدين آخرين يشهدان أن هذه الأرض بحدودها هي تلك الأرض التي يشهد الشهود بوقفيتها، فإن شهدا أنه إذا.... حدودها وقفنا عليه ولكن لم يسم لنا حدودها قبلت شهادتهما.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه وقف حصته من هذه الأرض أو من هذه الدار ولا يدريان ما حصته، فالشهادة باطلة عند أبي حنيفة على قياس مسألة البيع، وهو ما إذا باع حصته من هذه الدار ومن هذه الأرض ولم يعلم المشتري حصته لا يجوز البيع عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: يجوز البيع وإن لم يعلما حصته، والهبة لا يجوز إذا لم يعرف حصة الواهب بلا خلاف، فالوقف على قول أبي يوسف: لا يجوز قياسًا على الهبة ويجوز استحسانًا كالبيع. وجه القياس: أن الوقف إزالة الملك بغير بدل فصار كالهبة. وجه الاستحسان: أن الوقف لو لم يصح إنما لا يصح لعدم التمييز ولا وجه إليه؛ لأن وقف المشاع عنده صحيح.
وإن شهدا أنه أقر عندهما أنه جعل حصته من هذه الأرض التي في موضع كذا حدودها كذا صدقة موقوفة لله تعالى وهي ثلث جميع هذه الأرض على كذا وجعل آخره للمساكين، فنظر الحاكم فوجد حصته من هذه الأرض نصفها أو ثلثيها، قال الخصاف: يجعل جميع حصته وقفًا على الوجوه التي سبلها.
قال رحمه الله: وقد قال أصحابنا في رجل قال لآخر: بعتك جميع حصتي من هذه الأرض وهي ثلثها بألف درهم، فإذا حصته نصفها، فليس للمشتري إلا الثلث الذي سماه له. وقالوا فيمن أوصى لرجل فقال: أوصيت لك بثلث مالي وهو ألف درهم، فإذا ثلث ماله أكثر من ألف، فللموصى له جميع الثلث، قال الخصاف: وعندي أن الوقف نظير الوصية؛ لأنه ليس بعقد معاوضة.
وإن جعل غلة ذلك على قوم سماهم ومن بعدهم على المساكين، فصدقة القوم الذين وقف عليهم، وقالوا: إنما قصد وقف الثلث علينا، قال: تصديقهم وسكوتهم في ذلك سواء، وأقضي بجميع حقه وقفًا وأجعل للقوم الذين سماهم بأعيانهم غلة الثلث من ذلك، وأجعل فضل ما بين الثلث إلى النصف للمساكين.
وإذا شهدا على رجل أنه وقف واختلفا فيما بينهما، فشهد أحدهما أنه وقف أرضه في موضع كذا، وشهد الآخر أنه وقف أرضه في موضع كذا، وسمى موضعًا آخر لا تقبل الشهادة؛ لأنه ما شهد على وقفية كل أرض إلا شاهد واحد. ولو شهد أحدهما أنه وقف تلك الأرض وحدها، وشهد الآخر أنه وقف تلك الأرض وأرضًا أخرى قبلت الشهادة على ما اتفقا عليه.
ولو شهد أحدهما أنه وقف هذه الأرض كلها وشهد الآخر أنه وقف نصفها قبلت الشهادة على النصف، وقضي بوقفية هذه الأرض، هكذا ذكر هلال والخصاف، قيل: هذا الجواب مستقيم على مذهبهما غير مستقيم على مذهب أبي حنيفة كما لو شهد أحد الشاهدين على تطليقة وشهد الآخر على نصف تطليقة، فإن هناك لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة، وعندهما لا يقبل على نصف تطليقة، ومنهم من قال: هذا على الإتفاق؛ لأن الأرض حصة، فصار كما لو شهد أحدهما على طلاق امرأة وشهد الآخر على طلاقها وطلاق أخرى. ولو شهد أحدهما أنه جعل له ثلث الغلة وشهد الآخر أنه جعل له نصفها قبلت الشهادة على الثلث عندهما، وإن شهد أحدهما أنه وقف نصفها مشاعًا وشهد الآخر أنه وقف نصفها مقسومة فالشهادة باطلة.
ولو شهد أحدهما أنه وقفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه وقفها يوم الجمعة قبلت الشهادة؛ لأن الوقف تصرف قولي، والقول يعاد ويكرر، فلا يضره اختلاف الزمان والمكان كالبيع، قيل: هذا على قول أبي يوسف، أما على قول محمد: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الوقف وإن كان قوليًا إلا أنه يتضمن فعلًا وهو التسليم، فإن التسليم عند محمد شرط صحته وكل قول يتضمن فعلًا كالنكاح، واختلفا فيه في الزمان والمكان لا تقبل الشهادة.
ولو شهد أحدهما أنه وقفها وقفًا صحيحًا في صحته وشهد الآخر أنه وقفها بعد موته لا يقبل الشهادة؛ لأن أحدهما شهد بالوقف والآخر بالوصية. ولو شهد أحدهما أنه وقفها صحيحًا في صحته وشهد الآخر أنه وقفها في المرض قبلت الشهادة، وتكون جميع الأرض وقفا إن كان يخرج من الثلث، وإن كان لا يخرج من الثلث يصير ثلثها وقفًا؛ لأنهما اتفقا على وقف الأرض واختلفا في الوقت إن كانت الأرض تخرج من الثلث، وإن كانت الأرض لا تخرج من الثلث، فقد اختلفا على ثلثها واتفقا فيما وراء ذلك، فيثبت ما اتفقا عليه ولا يثبت ما تفرد به أحدهما.
ولو شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على الفقراء وشهد الآخر أنه جعلها صدقة موقوفة على المساكين قبلت الشهادة؛ لأنهما اتفقا على الفقراء، فإن من قال: أرضي صدقة موقوفة كانت على الفقراء، فقد اتفقا على كونهما وقفًا على الفقراء، فيثبت ذلك ويبطل ما تفرد به أحدهما. والحاصل: أنهما إذا اتفقا على كونهما صدقة موقوفة وتفرد أحدهما بزيادة شيء لا يثبت الزيادة، ويثبت ما اتفقا عليه وكونهما وقفًا على الفقراء. وعن هذا قلنا: إذا شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على زيد تكون وقفًا على الفقراء؛ لأنهما اتفقا على جعلها صدقة موقوفة.
وذكر الخصاف في (وقفه): إذا شهد أحدهما أنه أقر أنه جعلها صدقة على الفقراء والمساكين وشهد الآخر أنه وقفها على الفقراء حكم عليه بالوقف للفقراء في قول حسن بن زياد من قبل أنه قال للفقراء والمساكين لهم سهم واحد قال: ومن قال: للفقراء والمساكين بينهما أن يجعل نصفها وقفًا للفقراء ويبطل النصف، قال: وهذا القول ما رواه محمد بن الحسن في (الجامع الصغير).
ولو شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على عبد الله وزيد، وشهد الآخر أنه جعلها على عبد الله خاصة قضيت بالنصف لعبد الله والنصف الآخر للفقراء، أما القضاء لعبد الله؛ لأنهما اتفقا على عبد الله، وأما القضاء بالنصف؛ فلأنهما اتفقا على النصف له واختلفا في النصف الآخر، (ولو) شهد أحدهما به لعبد الله وشهد الآخر به لزيد، فما اتفقا عليه يثبت وما اختلفا فيه لا يثبت ويجعل ذلك كالسكوت عنه ويكون للفقراء بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى اتفقا على كونه لعبد الله وزاد أحدهما لولده من بعده، فلم يثبت هذه الزيادة، ويثبت ما اتفقا عليه وهو كونه لعبد الله. قال مشايخنا: وما ذكر من الجواب أنه يقضي لعبد الله بالنصف يجب أن يكون قول الكل؛ لأنهما لم يختلفا في لفظ الشهادة لعبد الله، وإنما زاد أحدهما حصة زيد فلم يثبت ذلك بمجرد قول فيكون للفقراء.
وإذا شهد أحدهما أنه جعل لعبد الله مائة درهم في كل سنة من غلات هذه الأرض وشهد الآخر أنه جعل له مئتي درهم لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة، كما لو شهد أحدهما لرجل بمئة درهم وشهد الآخر بمئتي درهم.
ولو قال أحدهما جعل له من الغلة في كل سنة مئة درهم، وقال الآخر: في سنة واحدة، فإنه يثبت في السنة الأولى عندهم؛ لأنهما اتفقا عليه. قال الخصاف في (وقفه): لو شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وشهد الآخر أنه جعلها صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وأبواب البر تقبل هذه الشهادة؛ لأن جميع ذلك من أبواب البر الأولى، لو أوصى رجل بثلث ماله في أبواب البر ففرقه القاضي في الفقراء والمساكين إن ذلك جائز.
قال: ولو شهد أحدهما أنه جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وفقراء قرابته قال: هذا لا يشبه أبواب البر؛ لأن الذي يشهد لفقراء قرابته لم يشهد بجميع الغلة للفقراء والمساكين. ألا ترى أن رجلًا لو أوصى بثلث ماله للفقراء والمساكين وفقراء قرابته أني أنظر إلى عدة فقراء قرابته يوم مات، فأضرب لهم في الثلث بعددهم وأضرب الفقراء والمساكين بسهمين، فإن كان فقراء قرابته عشرة كان لهم عشرة أسهم وللمساكين سهمان، فكذلك في الوقف أنظر إلى فقراء القرابة وأنظر كم يصيب الفقراء، فأجعل ذلك وقفًا عليهم.
إذا شهد شاهدان أنه جعل هذه الأرض صدقة موقوفة علينا يجب أن يبطل قوله: علينا ويبقى قوله: صدقة موقوفة، فيقضى للفقراء كما لو اقتصرا على قولهما صدقة موقوفة، ألا ترى أنا ذكرنا قبل هذا أنهما لو شهدا أنه جعل أرضه صدقة موقوفة، فقال أحدهما: على عبد الله، وقال الآخر: على زيد، يبطل قولهما: على زيد وعبد الله، ويبقى على قولهما: صدقة موقوفة، قلنا: في تلك المسألة الكلام خرج مخرج الصحة؛ لأنه شهادة كله فيثبت ما اتفقا عليه لتمام الحجة ويبطل ما اختلفا فيه لعدم الحجة، وهنا الكلام خرج مخرج الفساد؛ لأنه خرج على وجه الدعوى، فيبطل كله كما لو شهدا أنه أبرأنا وفلانًا عن الدين أو شهدا أنه قذف أمنا وفلانًا بكلام واحد أو خاطب أختين فأجاب أحدهما لم يجز لما قلنا.
ولو شهدا أنه وقف أرضه علينا وعلى قوم آخرين فذلك كله باطل ولا يجوز للشركاء سواهم؛ لأن الكلام خرج على وجه الفساد. وكذلك إذا قالا: على قرابته وهما من قرابته، أو قالا: على نسله، أو قالا على آل عباس وهما من آل عباس، ولو قالا: علينا وعلى قوم آخرين معلومين، فأردنا أن لا تبطل شهادتهما، فلم يقبل ذلك قبلت شهادتهما؛ لأنه تمحض كلًا منهما شهادة وانعدمت التهمة وصار كالصغير إذا شهدا بالبيع وقالا: سلمنا الشفعة قبلت شهادتهما، ولو شهدا لقرابة الواقف وهما من قرابته وقالا: لم يقبل ذلك لم يقبل شهادتهما؛ لأن أولادهما من قرابتهما وردهما في حق الأولاد ولا يعمل فصارا شاهدين لأولادهما، وكذلك إذا لم يكن لهما أولاد؛ لأنه ربما يخلق لهما، فيستحقون بهذه الشهادة فصارا شاهدين لأولادهما مؤجلًا والبيع المؤجل والمعجل في منع قبول الشهادة على السواء.
إذا وقف الرجل كراستة على مسجد لقراء القرآن أو على أهل مسجد وهم يحصون حتى جاز الوقف، فشهد أهل ذلك المسجد على وقف الكراست فهذه الشهادة نظير مسألة شهادة مدرسته على وقف تلك المدرسة أو شهادة أهل محلة على وقف تلك المحلة والمشايخ فصلوا الجواب فقالوا في شهادة أهل المدرسة: إن كانوا يأخذون الوظيفة من ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن كانوا لا يأخذون تقبل وكذلك قالوا في أهل المحلة: من شهد وهو ممن يأخذ من ذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه حينئذ تكون هذه شهادة جار معهم وكذلك الشهادة على وقف مكتب وللشاهد صبي في المكتب.
وقيل في هذه المسائل: يقبل الشهادة على كل حال؛ لأن كون الفقيه في المدرسة وكون الرجل في المحلة وكون الصبي في المكتب ليس بأمر لازم بل ينتقل الرجل من مدرسة إلى مدرسة ومن محلة إلى محلة، والصبي من مكتب إلى مكتب، وعن هذا قلنا: إذا شهدا أنه وقف على فقراء جيرانه وهما من فقراء جيرانه أو شهدا أنه وقف على فقراء هذا المسجد أو شهدا أنه وقفها على فقراء أهل السجن بالبصرة أو على فقراء أهل مصر كذا، وهما من ذلك تقبل شهادتهما، بخلاف ما إذا شهدا أنه وقف على فقراء القرابة وهما من فقراء القرابة حيث لا تقبل شهادتهما؛ لأن الجوار لا يدوم بل يتحول وينقطع، فإنما يستحق بالجوار وقت القسمة وذلك غير ثابت وقت الشهادة، فلم يكن شاهدًا لنفسه فلا يمنع قبول الشهادة، فأما القرابة فإنها تدوم ولا تنقطع، فإنما يستحق بهذه القرابة ألا ترى أن فقراء القرابة، تعين يوم حدوث الغلة وفي فقراء الجيران، وهذه المسائل تعتبر وقت قسمة الغلة بجوار يثبت الاستحقاق في الجوار وقت القسمة، وذلك ليس بموجود للحال وسبب الاستحقاق في القرابة هو القرابة قبل القسمة وهو موجود في الحال.
أرض في يدي رجل يزعم أنها ملكه، فادعى قوم أن هذا الرجل وقف هذه الأرض علينا وقفًا صحيحًا وذو اليد منكر، فأقاموا بينة على ما ادعوا قبلت بينتهم وحكمت عليه بالوقف وأخرجتها من يده، وهذه المسألة تصريح أن الدعوى من الوقف عليه صحيح. وكذلك إذا ادعى رجل على رجل أنه وقف هذه الأرض على المساكين وهو يجحد ذلك، وأقام بينة على إقراره بذلك حكمت عليه بالوقف للمسلمين، وأخرجت الأرض من يده تقبل الشهادة على أهل الوقف بالشهرة وعلى الشرائط لا (تقبل)، هو المختار ويقبل الشهادة على الشهادة في الوقف، وكذا شهادة النساء مع الرجل.

.نوع منه:

رجل جاء إلى قاضي بلدة فقال: إني كنت أمينًا للقاضي الذي كان قبلك هنا وفي يدي صدقة كانت لرجل يقال له فلان بن فلان وقفها على قوم معلومين سماهم قبل قوله إذا لم يكن للواقف ورثة ولم يعلم من أمر هذه الصدقة غير ما أقر به هذا الرجل، وإن كان له ورثة، فقال: هو ميراث بيننا، وليس بوقف فالقول قولهم ويكون ميراثًا بينهم وإن قالت الورثة: هي وقف علينا وعلى نسلنا ومن بعد ذلك على المساكين، وقال الذي في يديه الضيعة: هي وقف على الفقراء والمساكين دونكم، فالقول قول الورثة، وقال الذي في يديه الضيعة: هي وقف على الفقراء ولم يقل وقفها فلان، وقال قوم: هو وقف علينا وعلى نسلنا وقفها أبونا، فالقاضي يقضي بالوقفية ولا ينظر إلى قول الورثة هذه الجملة في (أجناس الناطفي) الوقف الذي تقادم أمره ومات الشهود الذين يشهدون عليها تنازع فيها قوم، قال فريق: هي وقف علينا وقفها فلان يعني ذلك الرجل الذي ادعى الفريق الأول الوقف من جهته، فهذه المسألة على وجهين: أحدهما: إذا كان للواقف ورثة أحياء وفي هذا الوجه يرجع إلى الورثة؛ لأنهم قائمون مقام الواقف يرجع إليهم سواء كان لها رسوم في دواوين القضاة يعملون عليها أو لم يكن، فأي فريق عينه الورثة، فالقاضي يجعل الوقف له، وإن لم يكن للواقف ورثة أحياء فهذا على وجهين أيضًا: إن كان لهذه الأوقاف رسوم في دواوين القضاة يعملون، فإذا تنازع فيها أهلها، فإنها تجري على الرسوم الموجودة في دواوينهم؛ لأنهم دليل ظاهر وليس هنا دليل فوقه، وإن لم يكن في دواوين القضاة رسوم يعملون عليها، فالقاضي يجعلها موقوفة فمن أثبت في ذلك حقًا قضى له به؛ لأنه لا دليل هنا أصلًا في (واقعات الناطفي) فإن اصطلح الفريقان على الشجأ فيما بينهم، فالقاضي ينفذ ذلك ويقسم الغلة عليهم بينهم.:
وإذا كان الأرض في يدي رجل وهو يقول: إنها كانت لفلان وقفها على كذا، وقالت الورثة: بل وقفها الميت علينا وعلى نسلنا ومن بعدنا على المساكين والذي قالت الورثة خلاف ما قاله الرجل، فإن القاضي يمضيه على ما أقر به الورثة إذا لم يجد القاضي في ديوان الحكم الذي قبله كتبًا من الصك فيها رسوم الوقف، وإن لم يكن الوقف في يد الأمناء بل وجد أمران من في يده، فأما إذا كان الوقف في يد الأمناء ولها رسوم في ديوان من مثله، فإنه لا يقبل قول الورثة فيما ليس في أيدي (الأمناء).
سئل شيخ الاسلام عن وقف مشهور اشتبهت مصارفه وقدر ما يصرف إلى مستحقيه، قال: ينظر إلى المعهود من حاله فيما سبق من الزمان أن قوّامها كيف يعملون فيه؟ وإلى من يصرفونه؟ وكم يعطون؟ فيبني ذلك (على الظاهر)؛ لأن الظاهر أنهم كانوا يفعلون ذلك على موافقة شرط الواقف وهم الظنون بحال المسلمين فيعمل على ذلك.
في (فتاوى الفضلي): وقف في يد صاحب الأوقاف فوجد في صك ذلك الوقف أن الفاضل من نفقته يصرف إلى فقراء أهل السكة الموجودين يوم الوقف، يضرب لكل واحد منهم بسهم ولسائر الفقراء بسهم وكل من مات منهم سقط سهمه وقسم بين الباقي منهم على ما وصفت، فإذا انقرض فقراء السكنة الموجودين يوم الوقف كان فقراء أهل السكنة ومن سواهم من فقراء المسلمين في ذلك سواء؛ لأن فقراء السكنة الموجودين يوم الوقف استحقوا بأعيانهم فصار للكل سهم واحد.
في وقف (الخصاف): رجل وقف ضيعة له، فقال: قد جعلت ضيعتي المعروفة بكذا وهي مشهورة مستغنية لشهرتها عن تحديدها صدقة موقوفة على وجوه سماها وجعل آخرها للمساكين جاز، فإن ادعى الواقف أن فراخًا منها لم يدخل في هذا الوقف قال: إن كانت حدود هذه الضيعة مشهورة معروفة وكان هذا الفراخ داخلًا في حدودها فهو داخل في الوقف، وكذا إن كانت هذه الضيعة معروفة عند الصلحاء من جيرانها وكان الفراخ منسوبًا إليها معروفًا أنه منها فهو داخل في الوقف، فإن لم يكن الأمر على ما بينا، فالقول قول الواقف ولا يكون هذا الفراخ داخلًا في الوقف وكان القياس أن يقبل قول الواقف فما أقربه كان وقفًا صحيحًا وما جحد كان مشكلًا كان القول فيه قول الواقف. وأما الدار يقفها الرجل ولها حجر، فقال الواقف: إن بعض الحجر لم يدخل في الوقف قال: ما كان من هذه مما يشتمل عليه حدود الدار، فهي داخلة في الوقف، والدار لا يشبه الضياع من قبل أن جيران الدار والملاصقين بها لا يكاد يشكل عليهم أمرها وحدودها، فإن كان أشكل ذلك على الجيران حتى لا يعرفوها، فالقول قول الواقف.
ولأهل الوقف أن ينازعوه وأن يستحلفوه على ما أنكر من ذلك.
فإن لم يكن وقفها على قوم وإنما وقفه على وجوه البر من يكون الخصم فيه؟ قال: من نازعه في ذلك من المسلمين وقدمه إلى الحاكم ينظر، فإن كان المنازع في ذلك رجلًا من أهل الستر والصلاح تطوع بالقيام لذلك ليس ممن يشاكل الناس وما رأى الحاكم أن يجعله خصمًا في ذلك فعل ما هو أصلح.
وقف في يد الواقف يصرف الأموال على القرابة ومواليه يفضل البعض على البعض ويضع فيمن شاء، ثم مات هذا الواقف، وأوصى إلى آخر ولم يبين كيف كان سبيل الواقف، فالثاني يصرف إلى من يصرف إليه الأول؛ لأن الظاهر أن الأول إلى من كان يصرف الزيادة عرف قراباته ومواليه يصرفه إلى الفقراء.

.الفصل الحادي والعشرون: في المساجد:

وهو أنواع:

.نوع منه:

الإضافة إلى ما بعد الموت أو الوصية ليست بشرط لصيرورة المكان مسجدًا صحة ولزومًا عند أبي حنيفة بخلاف سائر الأوقاف على مذهبه، وقول أبي حنيفة في المسجد في أنه لا يشترط الإضافة إلى ما بعد الموت أو الوصية كقولهما، وأما القبض والتسليم شرط لصيرورته مسجدًا عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف ليس بشرط حتى إن عنده يصير مسجدًا بمجرد البناء، وعندهما لا يصير مسجدًا بمجرد البناء ما لم يوجد القبض والتسليم، وبالصلاة بجماعة يقع القبض والتسليم بلا خلاف حتى إنه إذا بنى مسجدًا وأذن للناس بالصلاة فيه فصلى فيه جماعة، فإنه يصير مسجدًا ويشترط مع ذلك أن تكون الصلاة بأذان وإقامة جهرًا لا سرًا حتى لو صلى جماعة بغير أذان وإقامة سرًا لا جهرًا لا يصير مسجدًا عندهما ولا يقع القبض والتسليم بالصلاة وحده عند محمد، وعن أبي حنيفة روايتان في رواية الحسن لا يقع القبض والتسليم وفي رواية غيره يقع القبض والتسليم.:
فإن جعل مؤذنًا وإمامًا وهو رجل واحد، فأذن وأقام وصلى وحده صار مسجدًا بالاتفاق؛ لأن أداء صلاته كالجماعة، ألا ترى أن أصحابنا قالوا: مؤذن مسجد إذا أذن وأقام وصلى وحده ليس لمن يجيء بعد ذلك أن يصلي بالجماعة في ذلك المسجد.
في (فتاوى سمرقند) فإن كان هذا الرجل الذي جعل مسجدًا صلى فيه بنفسه يصير مسجدًا، ذكر هلال في (وقفه) ما يدل على أنه يصير مسجدًا، فإنه قال: كان أبو حنيفة يقول: لا يكون مسجدًا حتى يصلى فيه وقوله يصلى فيه على ما لم يسم فاعله، فهذا دليل على أن صلاته وحده وصلاة غيره فيه سواء.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن يشترط صلاة غيره وبقبض المتولي هل يصير مسجدًا من غير أن يصلى فيه؟ فقد اختلف المشايخ فيه ويكتفى بصلاة واحدة بالجماعة لصيرورته مسجدًا ذكره في (الوقف) للحسن بن زياد. وفي (وقف هلال) البصري والخصاف قال أبو حنيفة: لا يكون مسجدًا حتى يصلى فيه جماعة بإذنه.
قال في آخر صلاة (الإملاء): رواية بشر بن الوليد قال أبو حنيفة: لا يصير مسجدًا حتى يقول: صلوا فيه جماعة أبدًا، ولو أمر القوم أن يصلوا فيه جماعة صلاة أو صلوات يومًا أو شهرًا لا يكون مسجدًا حتى يقول ما بيناه من القول.
وذكر الصدر الشهيد في (واقعاته) في باب العين من كتاب الهبة والصدقة رجل له أرض ساحة لا بناء فيها، أمر قومًا أن يصلوا فيها بجماعة، فهذا على ثلاثة أوجه: أما إن أمرهم بالصلاة فيها أبدًا نصًا بأن قال: صلوا فيها أبدًا أو أمرهم مطلقًا ونوي الأبد وفي هذين الوجهين صارت الساحة مسجدًا لو مات لا يورث عنه، وأما إن وقت الأمر باليوم أو الشهر أو السنة وفي هذا الوجه لا تصير الساحة مسجدًا لو مات تورث عنه.
في (فتاوى أبي الليث): سئل الفقيه أبو جعفر عن وقف بجنب المسجد والوقف على المسجد، فأرادوا أن يرفدوا في المسجد من ذلك الوقف قال: يجوز وينبغي أن يفعل ذلك بإذن الحاكم؛ لأن الولاية للحاكم. وسئل أبو القاسم عن أهل مسجد أراد بعضهم أن يجعلوا المسجد رحبة أو الرحبة مسجدًا أو نجد موالٍ له بابًا أو يحولوا بابه عن موضعه، فأبى البعض ذلك، فإذا اجتمع أكثرهم وأفضلهم على ذلك، فليس للأقل منعهم عنه.
وفي قسمة (فتاوى أبي الليث) الطريق إذا كان واسعًا فبنى فيه أهل المحلة مسجدًا للعامة ولا يضر ذلك بالطريق فلا بأس به؛ لأن الطريق لهم والمسجد لهم أيضًا، وإن أراد أهل المحلة أن يدخلوا أشياء من الطريق في دورهم نص في (العيون) أنه ليس لهم ذلك، وإن كان لا يضر ذلك بالطريق؛ لأن الطريق للمسلمين والدور لأربابها خاصة.
وإن أرادوا أن يجعلوا شيئًا من المسجد طريقًا للمسلمين، فقد قيل: ليس لهم ذلك وإنه صحيح. وفي كراهية (فتاوى أهل سمرقند) قوم بنوا مسجدًا واحتاجوا إلى مكان ليتسع وبجنبه طريق المسلمين، فأخذوا شيئًا من الطريق وأدخلوه في المسجد إن كان لا يضر بأصحاب الطريق رجوت أن لا يكون به بأسًا، ولو ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه بالقيمة كرهًا منه صح عن عمر وكثير من الصحابة وصفهم أنهم أخذوا أرضين بكره من أصحابها، وزادوا في المسجد الحرام حين ضاق بهم.
وفي (فتاوي النسفي): سئل شيخ الإسلام أبو الحسن عن متولي مسجد جعل منزلًا موقوفًا على المسجد مسجدًا وصلى فيه الناس سنين ثم ترك الصلاة فيه، فأعيد منزلًا مستعملًا ينفق عليه على ذلك المسجد كما كان، قال: يجوز، قيل: فهل صح جعل المتولي المنزل مسجدًا؟ قال: لا.
في (فتاوى أبي الليث) سلطان أذن لأقوام أن يجعلوا أرضًا من أرض الكورة في مسجدهم ويزيدوا فيه ويتخذوا حوانيت موقوفة على مسجدهم، قال الفقيه أبو بكر: إن كانت البلدة فتحت عنوة يجوز أمره إذا كان ذلك لا يضر بالمارة، وإن كانت فتحت صلحًا لم يجز أمره؛ لأنها إذا فتحت عنوة صارت ملكًا للغزاة، وللسلطان فيها تدبير، فإن له الخيار في الأراضي التي فتحت عنوة إن شاء قسمها بين الغانمين، وإن شاء من على أهلها برقابهم وأراضيهم، وإن شاء دفع البعض إلى الغانمين وترك البعض على أهلها، وإذا كان للسلطان تدبير فيها صح أمره فيها. أما الأرض التي فتحت صلحًا بقيت على ملك ملاكها ولا تدبير للإمام فيها، فلم يصح أمر الإمام فيه.
وفي (الجامع الصغير) رجل جعل داره مسجدًا تحته سرادب وجعل باب المسجد إلى الطريق وعزله، فإنه لا يصير مسجدًا حتى لو مات يورث عنه، وله أن يبيعه حال حياته؛ لأن المسجد لا يكون لله تعالى (إلا) خالصًا، وفي هذين الفصلين لا خلاص؛ لأن الأرض أو السطح من هذا المسجد لا يكون لله تعالى.
وفي (المنتقى): اتخذ من داره مسجدًا أشرعه وجعل على الظلل منه غرفة ومسكنًا، فهذا ملك له وله أن يبيعه، وكذلك الصحن الذي عليه بناء ولا تحته مسكن يريد أنه كما لا يثبت لما تحت المسكن حكم المسجد لا يثبت للباقي، وهو الصحن حكم المسجد لما أشار إليه في (الكتاب) أن هذا مسجد واحد، وعن أبي يوسف أنه أجاز أن يكون الأسفل مسجدًا والأعلى ملكًا؛ لأن الأسفل أصل عن محمد أنه حين دخل الري ورأى ضيق الأمكنة جوز ذلك.
وإن جعل وسط داره مسجدًا وأذن للناس بالدخول فيه فله أن يبيعه، وإن مات يورث عنه. وفي (الأجناس) في (نوادر هشام): قال سألت محمد بن الحسن عن نهر قرية كثير أهلها لا يحصى عددهم وهو نهر قناة أو نهر وادي لهم خاصة أراد قوم أن يعمروا بعض هذا النهر ويبنوا عليه مسجدًا ولا يضر ذلك بالنهر ولا يعرض لهم أحد من أهل النهر، قال محمد رحمه الله: يسعهم أن يبنوا ذلك المسجد للعامة والمحلة. ولو كان مسجد في محلة ضاق على أهله ولا يسعهم أن يزيدوا فيه فسألهم بعض الجيران أن يجعلوا ذلك المسجد له ليدخل هو داره ويعطيهم مكانه عوضًا ما هو خير له فيتسع فيه أهل المحلة، قال محمد: لا يسعهم ذلك.
إذا أراد إنسان أن يتخذ تحت المسجد حوانيت غلة يلزمه المسجد أو فوقه ليس له ذلك.
في (الحاوي) وفي (المنتقى): إذا بنى الرجل مسجدًا وبنى فوقه غرفة وهو في يده فله ذلك، وإن كان حين بناه خلى بينه وبين الناس ثم جاء بعد ذلك بنى لا يترك.
في (الفتاوى): سئل أبو القاسم عمن أراد أن يهدم مسجدًا ويبنيه أحكم من بنائه الأول، قال: ليس له ذلك، تأويل هذه المسألة: إذا لم يكن هذا الرجل من أهل هذه المحلة، فقد ذكر في (الواقعات) عن أبي حنيفة رحمه الله: لأهل المسجد أن يهدموا المسجد ويجددوا بناءه ويضعوا الحباب ويعلقوا القناديل، ولو أصاب من قنديلهم رأس رجل لا ضمان عليهم، ولو علق أهل محلة أخرى ضمنوا، وهذا إذا أراد أهل المحلة أن يعلقوا ذلك من مال أنفسهم، فأما إذا أرادوا أن يعلقوا ذلك من الوقف ليس لهم ذلك إلا أن يأمر القاضي؛ لأن هذا تصرف بالوقف وليس لهم هذه الولاية.

.نوع منه:

إذا جعل أرضًا له مسجدًا وشرط من ذلك شيئًا لنفسه لا يصح بالإجماع، فرق بين هذا وبينما إذا وقف أرضًا له على الفقراء وشرط بعض الغلة لنفسه، فإنه يصح، والفرق يخرج على ما ذكرنا في تلك المسألة يعرف ذلك بالتأمل إن شاء الله تعالى، ومعنى آخر للفرق: أن في الوقف يصير شارطًا لنفسه من ملك الغير؛ لأن الغير بالوقف يزول ملكه إلى الله تعالى؛ لأنه لا يشترط لنفسه شيئًا من العين إنما يشترط من الغلة والمنفعة، وإذا زال العين عن ملكه فالمنافع تحدث على ملك الله تعالى فصار شارطًا لنفسه من ملك الغير فيصح، وفي المسجد يصير شارطًا لنفسه بعض ملك نفسه فلا يصح.
وفي (وقف الخصاف): إذا جعل أرضه مسجدًا وبناه وأشهد أن له إبطاله وبيعه فهو شرط باطل ويكون مسجدًا ولا يشبه الوقف، وأشار إلى الفرق فقال: ألا ترى لو بنى مسجدًا لأهل محلة وقال: جعلت هذا المسجد لأهل هذه المحلة خاصة كان لغير أهل تلك المحلة أن يصلي فيه، وفي الوقف لا يرجع إلى غير من شرط له.
إذا جعل أرضه مسجدًا فخرب ما حول المسجد من المحلة واستغنى أهل المحلة عن ذلك المسجد عاد إلى ملك صاحبه إن كان حيًا وإلى ملك ورثته إن كان ميتًا عند محمد رحمه الله.
وفي (السير الكبير): إذا خرب القرية التي فيها المسجد وجعلت مزارع وخرب المسجد فلا يصلي فيه أحد فلا بأس بأن يأخذه صاحبه ويبيعه ممن يجعله مزرعة أو يجعله مزرعة لنفسه، وهو قول محمد، وقال أبو يوسف: لا يعود إلى ملك الثاني إن كان حيًا ولا إلى ورثته إن كان ميتًا وهو مسجد أبدًا على حاله فمحمد يقول: إنه أزال ملكه بجهة وقد بطلت تلك الجهة لو بقيت الإزالة كانت الإزالة مطلقًا، وبهذا الطريق لو كفن ميتًا ثم افترسه السبع عاد الكفن إلى ملك صاحبه، وكذا إذا علق قنديلًا وبسط حصيرًا أو بواري في المسجد ثم خرب المسجد واستغنى عنه عادت هذه الأشياء إلى ملك صاحبها، وأبو يوسف يقول: هو أزال ملكه بجهة ولكن لم يبطل تلك الجهة؛ لأن ما جعلها مسجدًا ليصلي فيه أهل هذه المحلة لا غير، وإنما جعلها مسجدًا ليصلي فيه العامة؛ لأن للعامة حق إقامة الصلاة في المساجد، والصحيح من مذهب أبي يوسف في فصل الحصير أنه لا يعود إلى ملك صاحبه بخراب المسجد بل يحول إلى آخر ويبيعه قيم المسجد للمسجد. وأما فصل الكفن قلنا: تكفين الميت ليس بإزالة للعين عن ملكه بل هو تبرع بالمنفعة لحاجة الميت، فكان بمنزلة العارية حالة الحياة وقد وقع الاستغناء للمستعير، فتعود المنفعة إلى المعير كما في حالة الحياة، وقال محمد في الفرس: إذا جعله الرجل حبيسًا في سبيل الله، فصار لا يستطاع أن يركب أنه يباع ويصير ثمنه لصاحبه أو ورثته على حسب ما قال في المسجد.
ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في (واقعاته): أن من جعل جنازة وملأة ومغتسلًا الذي يقال بالفارسية: حوض مسين وقفًا في محلة، فمات أهلها كلها لا يرد إلى الورثة بل يحمل إلى مكان آخر، قال رحمه الله: فرق محمد رحمه الله بين هذا وبين المسجد إذا خرب ما حوله أن يصير ميراثًا، وفي هذه الفصول نوع إشكال، وينبغي أن يعود إلى الوارث على قياس مسألة الحصير والبواري، وإن صح هذا من محمد تصير هذه المسائل رواية في الحصير والبواري أنه لا يعود إلى الوارث.
في (المنتقى): في مسجد يريد أهل المحلة أن يحولوه إلى موضع آخر، فإن ترك هذا حتى لا يصلى فيه، فللناس أن ينتفعوا به ويجعلون المسجد في غير هذا الموضع بمنزلة الخراب، وتأويل هذا إذا لم يعرف للمسجد بانٍ على ما نبينه إن شاء الله، فأما إذا لم يترك كما وصفت لك، فإنه لا يبيعونه ولا يتخذونه مسكنًا، وهذه المسألة على هذا التفصيل إنما تتأتى على قول محمد.
وفي (الأجناس): إذا خرب المسجد ولا يعرف بانيه وبنى أهل المسجد مسجدًا آخر ثم أجمعوا على بيعه واستعانوا بثمنه في ثمن المسجد الآخر فلا بأس به. قال أبو العباس الناطفي في (الأجناس): فقياسه في وقف هذا المسجد أنه يجوز صرفه إلى عمارة مسجد آخر إذا لم يعرف الواقف ولا وارثه، فأما إذا عرف للمسجد بان فليس لأهل المسجد أن يبيعوه؛ لأنه لما خرب ووقع الاستغناء عنه عاد إلى ملك بانيه أو ورثته، فلا يكون لأهله أن يبيعوه وما ذكر من الجواب، أما لم يعرف بانيه قول محمد لا قول أبي يوسف هو مسجد أبدًا، فلا يكون لأهل المسجد أن يبيعوه، وعن أبي سلمة السهمي، قال محمد: في مسجد إذا خرب فلا يعرف بانيه فحكمه حكم الأرض عامرة لا يعرف لها رب، فيكون أمرها إلى الإمام.
قال أبو العباس الناطفي في (الأجناس): اختلفت الروايات في تولية بيع المسجد والأوقاف إذا خرب ذكر في (نوادر هشام) في باب الوصايا في الوقف إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين، فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه آخر، ولا يجوز بيعه إلا للقاضي في قول محمد.
وفي (جامع الكيسانيس): إذا جعلت امرأة مصحفًا حبيسًا في سبيل الله وتحرق المصحف وبقيت الفضة التي عليه دفع ذلك إلى القاضي حتى يبيعه ويشتري مصحفًا مستقبلًا، فيجعله حبيسًا، ولو جعل فرسًا حبيسًا في سبيل الله فأصابه عيب لا يقدر على أن يغزو عليه لا بأس للوكيل أن يبيعه يريد به القيم ثم يشتري بثمنه فرسًا آخر يغزو عليه، وبيع الوكيل جائز في ذلك بغير أمر القاضي، وهو بمنزلة المسجد إذا خربت القرية كان لصاحبه أن يأخذه ويبيعه.

.فرع على مسألة المصحف:

لو صار المصحف لا يعطي ثمنه مصحفًا يرد ذلك على الورثة، فاقتسموا على فرائض الله تعالى قال الكسائي: وهو قول أبي يوسف ومحمد. وفي وصايا (الإملاء) رواية بشر بن الوليد: إذا جعل أرضه صدقة موقوفة بما فيه من الرقيق والبقر والآلة فتغير عن حاله حتى لا ينتفع به في الصدقة ليس له بيعه إلا بأمر القاضي.

.نوع منه في ذكر المسائل التي تعود إلى ما في المسجد في (المنتقى) وفي (الوصايا) لابن سماعة عن محمد رحمهما الله:

رجل اشترى بواري المسجد لم يكن له أن يأخذها، ولو اشترى قناديل المسجد وحبابًا فوضع في المسجد كان له أن يأخذ ذلك، فقد فرق على هذه الرواية بين البواري وبين القناديل والحباب.
ذكر في (المنتقى) أيضًا بعد هذه المسألة بمسائل إبراهيم عن محمد عن أبي حنيفة إذا أخرج الرجل البواري في المسجد فليس بميراث وهو قول محمد. وكذلك قال محمد في القناديل سوى في رواية ابراهيم بين القنديل وبواري المسجد إذا صارت حلقًا واستغنى أهل المسجد عنها وقد طرحها إنسان، فإن كان الذي طرحها حيًا فهي له؛ لأنها لم تزل عن ملكه، هكذا ذكر الصدر الشهيد في (واقعاته) وهذا التعليل ليس بصحيح، فإن أحدًا من العلماء لم يقل بأن البواري لا يزول عن ملكه، وإنما اختلفوا في عودها إلى ملكه عند وقوع الاستغناء عنها على ما مر قبل هذا، وإن كان الذي قد طرحها ميتًا ولم يدع وارثًا آخر جوابه لا بأس بأن يدفع أهل المسجد إلى فقير وينتفعوا بالثمن في شراء حصير آخر للمسجد. قال الصدر الشهيد: هكذا ذكر الفقيه أبو الليث في فتاويه، قال: والفتوى على أنه لا يجوز إذا فعلوا ذلك من غير أمر القاضي.
وفي (المنتقى) بواري المسجد: إذا خلقت فصار لا ينتفع بها، فأراد الذي بسطها أن يأخذها ويتصدق بها ويشتري مكانها فله ذلك، وإن كان هو غائبا، فأراد أهل المحلة أن يأخذوا بواري فيتصدقوا بها بعد ما خلقت لم يكن لهم ذلك إذا كان لها قيمة فلا بأس بها.
في (فتاوى أبي الليث): سئل الفقيه أبو بكر عن حشيش المسجد يخرج عن المسجد أيام الربيع، قال: إن لم يكن له قيمة فلا بأس بطرحه خارج المسجد ولا بأس برفعه والانتفاع به، وفي كراهية (فتاوى أهل سمرقند) قال مثل ذلك، قال في (فتاوى أهل سمرقند): حشيش المسجد إذا كان له قيمة، فلأهل المسجد أن يبيعوا، وإن رفعوا إلى الحاكم فهو أحب إلي، وكذا الجنازة والنعش إذا فسد فلأهل المسجد أن يبيعوهما، وإن رفعوا إلى الحاكم فهو أحب قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار للفتوى أنهم لا يبيعون إلا بأمر الحاكم؛ لأن البيع يعتمد الولاية، ولا ولاية لهم.
في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: إذا رفع من حشيش المسجد وجعله قطعًا... فهو ضامن له؛ لأن له قيمة حتى حكي عن الشيخ أبي حفص السنكردري: أنه أوصى في آخر عمره بخمسين درهمًا لحشيش المسجد.
في (فتاوى أبي الليث): سئل أبو بكر عن سراج المسجد هل يجوز أن يتركه في المسجد؟ فاعلم بأن هنا ثلاث مسائل:
أحدها: إذا تركوها من وقت المغرب إلى وقت العشاء والحكم فيها أنه لابأس بها.
الثانية: إذا تركوها كل الليل وإنه لا يجوز إلا في موضع جرت العادة بذلك المسجد كبيت المقدس والحرم ومسجد رسول الله عليه السلام.
المسألة الثالثة: إذا تركوها بعض الليلة وإنه جائز إلى ثلث الليل؛ لأن لهم تأخير العشاء إلى ثلث الليل بل يستحب لهم ذلك، وإنما يسرج في المساجد لأداء الصلاة، ويجوز ترك السراج في المسجد إلى وقت أداء الصلاة إذا كان في الدهن متسع يقبل له الجواز أن يدرس في المسجد لضوء سراج المسجد فقال: إن وضعوا السراج لأجل الصلاة يجوز، وإن وضعوا لا لأجل الصلاة بأن فرغوا من الصلاة وذهبوا وتركوا السراج في المسجد، فإن تركوا إلى ثلث الليل جاز التدريس بضوئه فلا بأس يبطل هذا الحق بالتعجيل، وإن أخذوا أكثر من ثلث الليل لا يجوز التدريس بضوئه إذ ليس لهم تأخير الصلاة إلى هذا الوقت، فلو جاز التدريس بضوئه جاز مقصودا وإنه لا يجوز.
سئل أبو القاسم عن شراء الدهن أو الحصير للمسجد أيهما أفضل؟ قال: هما سواء، قال الفقيه (أبو) الليث: إن كان المسجد محتاجا إلى أحدهما فشراؤه أفضل، وإن كانا سواء في الحاجة إليهما كانا في ثواب الآخرة سواء أيضًا، وسئل نصير عن ديباج الكعبة إذا خلق قال: لا يجوز أخذه ولكن للسلطان أن يبيعه ويستعين به على أمر الكعبة.

.نوع منه في المسائل التي تعود إلى الوقف على المسجد وما يتصل به:

سئل الفقيه أبو القاسم عمن أراد أن يقف أرضًا له على المسجد في عمارته وما يحتاج إليه من الدهن وغيره كيف يفعل حتى يكون آمنًا عن البطلان، قال: يقول: وقفت أرضي التي في موضع كذا أحد حدودها كذا، والثاني والثالث والرابع كذا بحقوقها وقفًا مؤبدًا في حياتي وبعد وفاتي على أن يستغل بوجوه غلاتها ويبدأ من غلاتها بما فيه من عمارتها، وأجر القوام عليها، ويدفع من غلاتها ما يحتاج إليه من الثواب فما فضل من ذلك يصرف إلى عمارة المسجد بموضع كذا ويصرف للمسجد ودهنه وحصيره وما فيه مصلحة المسجد على أن للقيم أن يتصرف على ما يرى فيه، وإذا استغنى هذا المسجد صرفت الغلة إلى فقراء المسلمين، وإن أراد أن يزيد في الاحتياط يرفع بعد ما سلم إلى المتولي حتى يخاصمه عند القاضي، فيقضي القاضي بجواز البيع ولزومه وبطلان رجوعه.
إذا وقف الرجل أرضًا له على المسجد ولم يجعل آخره للمساكين كان محمد بن سلمة رحمه الله يقول: يجب أن يكون هذا الفصل على الاختلاف، وعند محمد: لا يصح؛ لأن عنده إذا خرب ما حول المسجد بطل المسجد وعاد ملكًا له أو ميراثًا لورثته، فلا يكون الوقف مؤبدًا، وعلى قول أبي يوسف: يصح؛ لأن عنده المسجد لا يبطل بخراب ما حوله، فكان الوقف مؤبدًا إن قلنا: إن التأبيد عنده شرط كيف وإن في اشتراط التأبيد على قوله اختلاف المشايخ على ما مر، وكان أبو بكر الإسكاف يقول: ينبغي أن لا يصح الوقف عندهم جميعًا، أما عند محمد لما ذكرنا، وأما عند أبي يوسف؛ فلأن الوقف على المسجد وقف على عمارته والمسجد اسم للبقعة لا تعلق له بالبناء والصلاة فيها ممكن بدون البناء، فلا يكون بناؤه قربة حقيقة فلا يصح الوقف، وكان أبو بكر بن سعيد يقول: ينبغي أن يصح الوقف بلا خلاف؛ لأن البناء إن لم يكن مسجدًا حقيقة ولكن وصل بالمسجد يصير تبعًا له ويصير منه حكمًا، ألا ترى أن البناء يستحق بالشفعة، وإذا كان كذلك صار بناء المسجد من طريق الحكم كجزء من المسجد، فيصير الوقف على عمارته بمنزلة جعل الأرض مسجدًا أو بمنزلة زيادة في المسجد، فيكون فوقه مسجد وما يتوهم من الانقطاع بخراب ما حوله عند محمد لا يمنع صحة الوقف كما لا يمنع صحة جعل داره مسجدًا، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: هذا القول أحب إلي، وعلى هذا القياس فقهاء الأمصار، ولو كان الوقف على المساجد صح؛ لأن جنس هذه القربة لا ينقطع ما دام الإسلام باقيًا.
وفي (الأجناس) وفي (جامع يزيد الطبري): سمعت محمد بن الحسن يذكر عن أبي حنيفة، لو جعل أرضًا وقفًا على المسجد جاز. في (فتاوى أبي الليث): سئل الفقيه أبو جعفر رحمهما الله عمن (قال): جعلت حجري لدهن سراج المسجد، ولم يزد على هذا صارت الحجرة وقفًا على المسجد بما قال ليس له الرجوع ولا له أن يجعل لغيره، وهذا إذا سلمه للمتولي عند محمد وليس للمتولي أن يصرف عليها إلى غير الدهن؛ لأن الواقف وقفها على دهن المسجد.
وفيه أيضًا: لو قال: هذه الشجرة للمسجد لا يصير للمسجد حتى يسلم إلى قيم المسجد؛ لأن قوله: هذه الشجرة إن كان هبة لا يعمل إلا بالتسليم عند الكل، فإن كان وقفًا لا يعمل إلا بالتسليم عند محمد وعليه الفتوى.
في (الأجناس) وفي (صلاة الإملاء): لو تصدق بدار على المسجد لا يجوز ويكون ميراثًا؛ لأن المسجد لا يتصدق عليه، وكذلك لو تصدق على طريق المسلمين، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في باب الواو: إذا تصدق على المسجد وعلى طريق المسلمين تكلموا فيه، والمختار أنه يجوز كالوقف.
وفي (الأجناس) أيضًا: إذا وقف أرضه على قرية مسجد كذا وبمن يوارثه ورثته قناديل وقال: إن استغنى عنه المسجد كانت الغلة للمساكين حتى جاز بالإجماع، واجتمعت الغلة والمسجد لا يحتاج إلى مرمة للحال إلا أنهم (إن) خافوا تعطل الغلة وحاجة المسجد إلى المرمة، فلا بأس بأن يحبسوا ذلك إلى أن يحتاج إليه المسجد، قال: إلا أن يكون الغلة داره فيفرق ما يفضل من الغلة على المساكين، ولو انهدم هذا المسجد فاحتاج أهله أن يبنوه، وقد حصل من غلة هذا المسجد ما يكفي لبنائه، فإنه لا يصرف هذه الغلة إلى البناء؛ لأن الواقف جعل الوقف على مرمته نظر سطحه واجماع يدخل في وقفه وما أشبهه، أما ما جعل الوقف على البناء.
وفي (نوادر هشام) إذا قال: أوصيت بثلث مالي للمسجد، قال أبو يوسف: هو باطل إلا أن يقول: ينفق على المسجد، وقال محمد: يجوز ويصرف إلى عمارته، كذلك إذا قال: لبيت المقدس جاز، وينفق على بيت المقدس في سراجه ونحوه، قال الشيخ الإمام أبو العباس الناطفي: فعلى قياس هذا في المسألة الأولى يجوز أن يصرف إلى دهن المسجد.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد إذا قال: أوصيت بثلث مالي بسراج المسجد لا يجوز، وحتى يقول يسرج بها في المسجد، وهو نظير ما لو أوصى بثلث ماله لدواب فلان لا يجوز. ولو أوصى لتعلفة دواب فلان يجوز.
وفي (مجموع النوازل): سئل شيخ الإسلام أبو الحسن عن رجل قال: وقفت داري على مسجد كذا، ولم يزد على هذا وسلمها إلى المتولي صح، ولم يشترط التأبيد ولم يجعل آخره للفقراء، قال: وهذا يكون تمليكًا للمسجد وهبة، فيتم بالقبض وإثبات الملك للمسجد على هذا الوجه يصح، فإن المتولي إذا اشترى من غلة دار المسجد يصح، وكذا من أعطى دراهم في عمارة المسجد ونفقة المسجد أو مصالح المسجد يصح، وكذا إذا اشترى المتولي عبدًا لخدمة المسجد يصح كل ذلك، فيصح هذا بطريق التمليك بالهبة، وإن كان لا يصح بطريق الوقف، قال: والمحفوظ من مشايخي وأستاذي أن المريض مرض الموت إذا قال: وقفت داري على مسجد كذا ولم يزد على هذا ولم يسلم الدار يصح ذلك ويكون وصية؛ والوصية بغير قبض يكون تمليكًا، فكذا هنا غير أن فرق ما بينهما أن الحاصل في مرض الموت وصية؛ والوصية تصح بغير تسليم والحاصل في حالة الصحة هبة فلا يتم إلا بالتسليم.
في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: سئل أبو القاسم عمن أوصى بشيء من ماله لعمارة المسجد، قال: عمارة المسجد في بنائة دون ترميمه، قيل له: المنارة، قال: ذلك من بناء المسجد، فيجوز أن تبنى به المنارة.
في هذا الكتاب أيضًا: سئل أبو بكر عن بناء المنارة من غلة المسجد قال: إن كان البناء مصلحة للمسجد- وتفسير المصلحة أن يكون أسمع للقوم- يجوز، وإن لم يكن في البناء مصلحة للمسجد- وتفسيره أن يكون المسجد في موضع يسمع جميع أهله الأذان من غير المنارة- لا يجوز. وسئل أبو بكر عمن وقف أرضًا له على عمارة المسجد، وشرط أن ما فضل من عمارته يصرف إلى الفقراء، فاجتمعت الغلة والمسجد غير محتاج إلى العمارة في الحال، قال: تحبس الغلة؛ لأنه ربما يحدث حدث بالمسجد والأرض يصير بحال وهكذا كان يقول الفقيه أبو جعفر، وقد ذكرنا هذه المسألة قبل هذه الصحفة، قال الفقيه أبو الليث: والصحيح عندي أنه إذا اجتمع من الغلة مقدار ما لو احتاج المسجد والأرض إلى العمارة يمكن العمارة منها، ويبقى زيادة شيء من الغلة يصرف الزيادة إلى الفقراء على ما شرط الواقف. وسئل أبو نصر (إن) كان الوقف على مرمة المسجد هل للقيم شراء السلم من ذلك إن بقي على السطح وتطيينه؟ وهل يعطي من غلته للذي يخرج السطح ويكنسه ويخرج ما اجتمع فيه من التراب، قال: للقيم أن يفعل ما في تركه خراب المسجد. وسئل أبو بكر عمن أوصى بثلث ماله لأعمال البر هل يجوز أن يسرج المسجد؟ قال: يجوز، قال: ولا يجوز أن يزاد على سراج المسجد سواء كان في شهر رمضان أو غيره؛ لأن فيه إسراف، قال: ولا يزين به المسجد، وسئل الفقيه أبو جعفر عن مسجد بابه على مهب الريح فيصيب المطر باب المسجد، فيضره ويبتل داخل المسجد وخارجه، ويشق على الناس الدخول في المسجد أيجوز أن يتخذوا من غلة المسجد ظلة؟ قال: إن لم يضر بأهل الطريق يجوز في (وقف الخصاف).

.نوع منه في المسائل التي تعود إلى قيم المسجد وما يتصل به في (فتاوى أبي الليث):

سئل الفقيه أبو القاسم عن قيم مسجد جعله القاضي قيمًا على غلاتها وجعل له شيئًا معلومًا يأخذ كل سنة حل له الأخذ إن كان مقدار أجر مثله؛ لأن للقاضي أن يستأجر أجيرًا بأجر مثله لذلك وإن لم يشترط الواقف.:
ولو نصب خادمًا للمسجد والباقي بحاله إن كان الواقف شرط ذلك في الوقف حل له الأخذ، وإن لم يكن شرط ذلك في الوقف لا يحل له؛ لأنه إذا لم يشترط الواقف ذلك لا يحل للقاضي نصب الخادم بالأجر فلا يحل للخادم القبض أيضًا هكذا ذكر، وفيه نظر يعرف بالتأمل إن شاء الله تعالى، وقد مر نصب الخادم في الخان الموقوف في الفصل السابع من هذا الكتاب.
في (فتاوى أبي الليث) أيضًا: مسجد له مستغلات وأوقاف، فأراد المتولي أن يفرش الآجر أو يشتري الحصير والدهن للمسجد أو ما أشبهه، أما فرش الأجر فله ذلك؛ لأنه من باب البناء، وأما شراء الدهن والحصير فلا، فحينئذ من ثلاثة أوجه: أما إن وسع الواقف ذلك على القيم بأن قال: يفعل القيم ما يرى من مصلحة المسجد وبنائه، وفي هذا الوجه له ذلك، وأما إن لم يوسع عليه وجعله لعمارة المسجد وبنائة وفي هذا الوجه ليس له ذلك، وأما إن لم يعرف شرط الواقف وفي هذا الوجه ينظر إلى من قبله إن كانوا يشترون منه الدهن والحصير والخشب له أن يفعل وما لا فلا، وقيل: ذكر المصلحة والعمارة وتركه سواء، ولا يتمكن المتولي من شراء الدهن والحصير.
وإذا أراد أن يصرف شيئًا من ذلك إلى إمام المسجد، فليس له ذلك إلا إذا كان الواقف شرط ذلك في الوقف على إمام المسجد يصرف إليها غلتها وقت الإدراك فأخذ الإمام الغلة وقت الإدراك عن تلك القرية هل يسترد منه بعض ما أخذ منه حصته ما بقي من السنة؟ قالوا: لا يسترد وهو نظير موت القاضي في خلال السنة وقد أخذ الرزق، وهل يحل للإمام أكل حصته ما بقي من السنة؟ إن كان فقيرًا يحل وكذلك الحكم في طلبة العلم يعطون في كل سنة أشياء مقدرًا من الغلة وقت الإدراك، فأخذ واحد منهم قسط وقت الإدراك وتحول عن تلك المدرسة.
قال هلال في (وقفه) في باب الرجل: يقف الأرض والدار على قوم معلومين وسقط شيء من بناء الدار؛ ولو أن بناء مسجد إنهار ولم يمكن إعادته بعينه إلى البناء فباع أهل المسجد البعض يجوز ويصرف ثمنه إلى عمارة المسجد لما ذكرنا، وقوله فباع أهل المسجد يحتمل أن يكون المراد منه باعه قيم المسجد إلا أنه أضيف بيعه إليهم؛ لأن القاضي ولاه ذلك باختيارهم، فصار فعل مختارهم كفعلهم، ويحتمل أن يكون المراد منه أهل الجماعة وهذا هو الظاهر.
وروي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله قال: إن كان أصحاب الخطة أحياء، فتدبير ذلك النقص إليهم؛ لأن تدبير المسجد إليهم؛ لأن الظاهر أن أصحاب الخطة يبنون المسجد بأموالهم فما بقي واحد منهم، فالتدبير في المسجد إليهم دون السكان، فإذا انقرضوا ولم يكن لهم ولد بالغ، فالتدبير إلى السكان، واعتبر هذه الفصول بالقسامة.
قيم المسجد إذا أراد أن يبني حوانيت في المسجد وفي فنائه لا يجوز، أما المسجد: فلأنه إذا جعل مسكنًا يسقط حرمة المسجد، أما الفناء: فلأنه يتبع المسجد.
مسجد له أوقاف مختلفة لا بأس للقيم أن يخلط غلتها كلها، أو خرب حانوت منها فلا بأس بعمارته من غلة حانوت آخر؛ لأن الكل سواء، كان الواقف واحدًا أو كان مختلفًا؛ لأن المعنى يجمعهما.
متول عليه مشرف ليس للمشرف أن يتصرف في الوقف؛ لأن المفوض إلى المشرف الحفظ لا غير. في (فتاوى أبي الليث): أهل المسجد إذا باعوا غلة المسجد أو نزل المسجد أو أمروا رجلًا ببيعه أو باعوا بعض المسجد إذا استغنى المسجد عن ذلك، أو أمروا رجلًا بالبيع على وجهين: أما إن فعلوا بأمر القاضي أو لا بأمره ففي الوجه الأول يجوز؛ لأن للقاضي هذه الولاية، وفي الوجه الثاني ذكر هنا أنه يرجى أن يجوز، قال الصدر الشهيد: والفتوى على أنه لا يجوز؛ لأنه ليس لهم هذه الولاية.
في (فتاوى أبي الليث): مسجد بجنبه نهر ماء، فانكسر حائط المسجد من ذلك الماء ينبغي لأهل المسجد أن يرفعوا الأمر إلى القاضي ليأمر القاضي أهل النهر بإصلاحه حتى إذا لم يصلحوا انهدم حائط المسجد ضمنوا قيمة ما انهدم؛ لأنهم صاروا متسببين للتلف بترك الإصلاح، وهذا التسبب نفذ لما كان بعد الإشهاد.
وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني في نفقاته عن مشايخ بلخ: أن المسجد إذا كان له أوقاف ولم يكن لها متولي، فقام واحد من أهل المحلة في جميع الأوقاف وأنفق على المسجد فيما يحتاج إليه من الحصير والحشيش وغير ذلك لا ضمان عليه فيما فعل استحسانًا فيما بينه وبين الله تعالى، فأما إذا أخبر الحاكم بذلك وأمر به عنده ضمنه الحاكم الفاضل من وقف المسجد، وهل يصرف إلى الفقراء؟ قيل: لا يصرف وإنه صحيح ولكن يشتري به مستغلا للمسجد.
وفي (الفتاوى الأصغر): متولي إذا أنفق على قناديل المسجد من وقف المسجد جاز، وقد ذكر قبل هذا بخلافه في الوقف في (الواقعات) للصدر الشهيد وقف صحيح على مصالح مسجد فمات فاجتمع أهل المسجد وجعلوا رجلًا متوليًا بغير أمر القاضي، فقام هذا المتولي مدة ذلك وصرف من غلاته وأنفق على المسجد بالمعروف، فتكلم المشايخ في جواز هذه التولية، قال الصدر الشهيد: المختار أنه لا يجوز؛ لأنه ليس لهم هذه الولاية ولا يضمن هذا المتولي ما أنفق من مال نفسه؛ لأنه لما آجر الدار والدار وقف ولا ولاية له عليها صار بالإجارة غاصبًا فتكون الأجرة له. متولي المسجد إذا اشترى بمال المسجد حانوتًا أو دارًا ثم باعها جاز إذا كان له ولاية الشراء، وهذه المسألة بناء على مسألة أخرى أن متولي المسجد إذا اشترى من غلة المسجد دارًا أو حانوتًا فهذه الدار وهذه الحانوت يلتحق بالحوانيت الموقوفة على المسجد؛ ومعناه أنه هل يصير وقفًا؟.
اختلف المشايخ فيه قال الصدر الشهيد: المختار (أن) يلتحق ولكن يصير مستغلًا للمسجد، وهذا لأن صحة الوقف والشرائط التي يتعلق بها لزوم الوقف لا يجوز فسخه ولا بيعه، ولم يوجد شيء من ذلك هنا فلم يصر وقفًا فيجوز بيعه.
في (فتاوى الفضلي): المتولي إذا اشترى منزلًا من الدراهم التي اجتمعت من أوقاف المسجد للمسجد ودفع المنزل إلى المؤذن ليسكن فيه يكره للمؤذن السكنى إذا علم بذلك؛ لأن المنزل صار من مستغلات المسجد، وفي نسخة أخرى إن لم يضف الشراء إلى الدراهم يحل ولا يكره، في (مجموع النوازل): سئل شيخ الإسلام عن أهل مسجد اتفقوا على نصب رجل متوليًا لمصالح مسجدهم فتولي ذلك باتفاقهم هل يصير متوليًا مطلق التصرف في مال المسجد على حسب ما لو قلده القاضي؟ قال: نعم قال: ومشايخنا المتقدمون يجيبون عن هذه المسالة ويقولون: نعم الأفضل أن يكون ذلك بإذن القاضي، ثم اتفق مشايخنا المتأخرون وأستاذنا أن الأفضل أن ينصبوه متوليًا ولا يعلموا به القاضي في زماننا، لما عرف من تجميع القضاة في أموال الوقف.
سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن أهل مسجد تصرفوا في أوقاف المسجد، يعني أجروا المستغل وله متولي قال: لا يصح تصرفهم ولكن الحاكم يمضي ما فيه مصلحة المسجد. قيل: هل يفترق الحال بين أن يكون المتصرف واحدًا أو اثنين؟ قال: لا بعد أن يكون التصرف من الأماثل رئيس المحلة ومتصرفها.
في (فتاوى أبي الليث): رجل بنى مسجدًا في السكة فنازعه في عمارته أو في نصيب الإمام أو المؤذن، ففي العمارة الثاني أولى؛ لأن العمارة من البناء وهو الثاني وفي نصيب الإمام والمؤذن تكلموا، قال الصدر الشهيد: المختار أن الثاني أولى إلا إذا كان القوم يريدون من هو أصلح فمن يريد الثاني فحينئذ هم أولى، وفي آخر كتاب كراهية إملاء أبي يوسف في رجل بنى مسجدًا أو جعل له مؤذنًا هو فيه وكرهه أهل المسجد وقالوا: يجعل مؤذن غيرك فليس ذلك لهم، إنما الأمر في ذلك إلى الذي بناه قبل إن كان فاسقًا، وكذلك إن أقام لهم إمامًا.
في (فتاوي النسفي): استأجر أرضًا موقوفة على مصالح مسجد من متوليه سنة بكذا، ثم دفعها إلى آخر مزارعة بالنصف ففعل، ثم إن أهل المحلة زعموا أن الآجر لم يكن متوليًا قال: يثبت المستأجر بالبينة كون الآجر متوليًا، فإن لم يجد فالغلة تكون للمستأجر وعليه أجر المثل للمسجد. وفيه أيضًا: متولي المسجد استصنع محراب المسجد إلى البحار في حسب معلوم وعمل وصناعة معلومة، قال: لا يصح؛ لأنه لا تعارف في هذا الاستصناع، وكذا في الأبواب والسلاليم والسور، والوجه فيه: أن يوصف له فيعمل ما إذا.... منه بما أنفقوا عليه فيصح.
وفيه أيضًا: عن أهل محلة باعوا وقف المسجد لأجل عمارة المسجد قال: لا يجوز بأمر القاضي وغيره قيل: إن كان أهل المسجد اشتروا عقارًا بغلات المسجد للمسجد هل لهم بيعه لعمارة المسجد؟ قال: فيه اختلاف المشايخ؛ لأنه لا ولاية لأهل المحلة في شراء العقار للمسجد فلم يصح شراؤهم أصلًا فلا يصح بيعهم بخلاف مسألة المتولي.

.الفصل الثاني والعشرون: في المسائل التي تعود إلى الرباطات والمقابر والخانات والحياض والطرق والسقايات:

قال محمد رحمه الله: إذا جعل أرضه مقبرة للمسلمين جاز وليس له أن يرجع فيها بعد تمامها أن يقبر فيها إنسان واحد بإذنه أو أكثر من ذلك، وهل يتم بالتسليم إلى المتولي؟ فلا رواية عن أصحابنا رحمهم الله، وقد اختلف المشايخ فيه، وكذلك إذا جعلها خانا للمار من المسلمين وخلي بينهم وبينها، فإذا نزلها بإذنه رجل واحد أو أكثر فلا سبيل له بعد ذلك عليها، وإن مات لم يكن شيء من ذلك ميراثًا، وإذا سلمها إلى المتولي يتم القبض، ذكره محمد رحمه الله في (الأصل) فعلى قول من قال في مسألة المقبرة أن القبض لا يتم بالتسليم إلى المتولي يحتاج إلى الفرق بين المقبرة والخان.
والفرق: أن المقبرة لا يكون لها متولي في العادة فلا يعتبر قبضه بخلاف الخان، وكذلك السقاية يجعلها في أرضه فيسقون ويشربون ويتوضؤن، فشرب منها إنسان أو سلمها إلى المتولي فليس له أن يرجع بعد ذلك عنه، وكذلك الحوض والبئر يجعله في أرضه قال: ولا بأس بأن يشرب منه ويسقي دابته وبقره ويتوضأ منه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إنما أجاب عن حياضهم وبئرهم، أما السقاية التي تكون في بلادنا إذا جعلها للشرب فأراد إنسان أن يتوضأ بها اختلف المشايخ فيه وأجمعوا أنه إذا وقف للوضوء أنه لا يجوز الشرب منه، وكذلك إذا جعل داره سكنى للمساكين ودفعها إلي والي يقوم بذلك فليس له أن يرجع فيها، وكذلك الرجل يكون له الدار بمكة فجعلها سكنى للحاج والمعتمرين ودفعها إلى والٍ يقوم عليها ويسكن فيها من رأى ليس له أن يرجع فيها، وكذلك إذا جعل داره في ثغر سكنى للغزاة والمرابطين ودفعها إلى والٍ يقوم عليها فليس له أن يرجع فيها، وإن مات لم يكن ميراثًا عنه، وإن لم يسكنها أحد. والحاصل: أن التسليم على قول من يشترط التسليم وهو محمد يكون بأحد طريقتين: إما بإثبات اليد للقيم عليها أو بحصول المقصود وذلك بالسكنى في مسألة الدار، وبالنزول في مسألة الخان، وبالدفن في مسألة المقبرة وما أشبهه ذلك.
وعند أبي يوسف: التسليم ليس بشرط فلا يشترط إثبات يد القيم في هذه المسائل ولا حصول المقصود بالدفن أو النزول أو الشرب، ويكتفي بالإشهاد على ذلك، وقال أبو حنيفة رحمه الله: وجميع ما ذكرنا فيه يبطل ما صنع فيه، قال محمد عقيب ذكر هذه المسائل: فأما السكنى فلا بأس بأن يسكنها الغني والفقير، يريد به: إذا جعل داره سكنى للغزاة أو سكنى للحاج والمعتمرين يجوز في الغزاة، وللحاج أن يسكنها كما يجوز للفقير، كذلك نزول الخان والدفن في المقبرة يستوي فيه الغني والفقير، فأما غلة الدار والأرض إذا حصلت للعزاة فلا يعجبني أن يأخذ منهما إلا من هو محتاج علل فقال: لأن الغلة مال يملك والتقرب إلى الله تعالى بتمليك المال يكون من المحتاج خاصة دون الغني بخلاف السكنى، وحقيقة الفقه في العرف: أن الغني مستغني عن مال الصدقة بمال نفسه غير مستغني عن النزول في الخان والسكنى في الدار والدفن في المقبرة بماله، ولا يمكنه أن يتخذ ذلك في كل منزل وربما لا يجد ما استأجره، ولأجل المعني سوينا بين الفقير والغني في ماء السقاية والحوض والبئر. قال الخصاف في (وقفه): إذا جعل الرجل داره سكنى للغزاة فسكن بعض الغزاة بعض الدار والبعض فارغ لا يسكنها أحد ينبغي للقيم بأمر هذا الوقف أن يكون من هذه الدار ما لا يحتاج إلى سكناه ويجعل أجر ذلك في عمارة هذه الدار، فما فضل بعد ذلك فرقه على الفقراء والمساكين.
وفي (النوادر): إذا بنى خانًا واحتاج إلى المرمة، روي عن محمد: أنه يعزل منها ناحية بيتًا أو بيتين فيؤاجر وينفق من غلتها عليها، روي عن محمد رواية أخرى: أنه يؤذن للناس بالنزول سنة ويؤاجر سنة أخرى ويرم من أجره، وهكذا إذا جعل فرسه حبسًا فإن كان ترك عليه مجاهد يركبه وينفق عليه، وإن لم يركبه أحد يؤاجر وينفق عليه من أجرته؛ قال الشيخ الإمام أبو العباس الناطفي: قياسه في المسجد أن يجوز إجارة سطحه لمرمته.
قال الخصاف في (وقفه): إذا جعل داره بمكة لسكنى الحاج فليس للمجاورين أن يسكنوها، وإذا مضى أيام الموسم أكريت وينفق عليها في مرمتها، وما فضل بعد ذلك فرق على المساكين والفقراء. وفي (المنتقى): إذا جعل فرسه حبسًا يحبس في الرباط ويغزي عليه، فإذا استغنى عنه يؤاجره الإمام بقدر علفه، فإن لم يوجد من يستأجره يبيعه الإمام ويوقف ثمنه حتى إذا احتيج إلى ظهر يشتري بثمنه فرسًا ويغزو عليه.
في (فتاوى أبي الليث): رجل بنى رباطًا للمسلمين على أن يكون في يده مادام حيًا فليس لأحد أن يخرجه من يده مالم يظهر منه أمر يستوجب الإخراج من يده كشرب الخمر أو ما أشبه ذلك من الفسوق الذي ليس فيه رضا الله تعالى؛ لأن شروط الواقف يجب اعتبارها ولا يجوز تركها إلا لضرورة، وفيه أيضًا: رباط المختلعة إذا كان فيها سكان فانهدم الرباط فبني أراد الساكنون الذين كانوا فيها أن يسكنوها، وأراد غيرهم ذلك فهذا على وجهين:
أما إن انهدم بعضها وفي هذا الوجه الذين كانوا فيها أحق من غيرهم؛ لأن سكناهم باقي، وكذلك إذا لم ينهدم أصلًا كان زيد فيه أو نقص عنه فالذين كانوا فيها أحق من غيرهم لما ذكرنا، وأما إن انهدم كلها وفي هذا الوجه الذين كانوا فيها وغيرهم في السكنى على السواء، لان سكناهم قد بطل وهذا ابتداء السكنى.
وفيه أيضًا: رجل جعل قطعة أرضه مقبرة ودفنوا فيها، ثم أن رجلًا من أهل تلك القرية بنى فيها بناء لوضع اللبن وأدّاه الغير واحتبس فيه رجلًا يحفظ المتاع بغير رضا الباقين من أهل القرية فهذا على وجهين: إن كان في أرض المقبرة سعة لا يحتاج إلى ذلك المكان اليوم لا بأس به، وإن لم يكن في أرض المقبرة سعة واحتاجوا إلى ذلك المكان اليوم يرفع البناء ويدفن، فيه أيضًا: رجل أوصى بأن يخرج ثلث ماله فيعطي ربع الثلث لفلان وثلاثة أرباعه لأقربائه وللفقراء ثم قالوا: لا يتركوا حظ الرباطيين وهم فقراء يسكنون في رباط بعينه، فهذا على وجهين:
إن كان قرابته؛ يجعل كل واحد منهم جزؤًا ويجعل الفقراء جزؤًا ويجعل للرباطيين جزؤًا حتى لو كان قرابته عشرة أسهم للقرابة وسهم للرباطيين؛ لأن القرابة إذا كانوا يحصون كانت الوصية لهم بأعيانهم، وإن كانت قرابته لا يحصون جعل ثلاثة الأرباع على ثلاثة أسهم؛ سهم للقرابة، وسهم للفقراء، وسهم للرباطيين؛ لأن القرابة إذا كانوا لا يحصون كانوا بمنزلة الفقراء.
قال هلال في وقفه: إذا اشترى الرجل موضعًا وجعله طريقًا للمسلمين وأشهد عليه فإنه يصح ويشترط لتمامه مرور واحد من المسلمين على قول من يشترط التسليم في الأوقاف، وعلى قول أبي حنيفة: لا يصح ويكون له حق الرجوع، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه لا رجوع في المقبرة في الموضع الذي دفن؛ لأنه يؤدي إلى نبش الميت، وأنه صحيح وله الرجوع فيما بقي.
وحكي عن الحاكم الملقب بالمهرون إن قال وحدث في (النوادر) عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه أجازوا وقف المقبرة والطريق، فهذه الرواية استفيدت من جهته، قال هلال: وكذلك القنطرة ينظرون فيها، لا يكون بناؤها ميراثًا للورثة وصار وقفًا، فقد خص بناء القنطرة الميراث فيها، وهذا يدل على أن موضع بناء القنطرة لم يكن ملكًا للثاني وهذا هو الظاهر، فإن الإنسان إنما يحتسب بناء القنطرة على نهر العامة، فتدل هذه الرواية على جواز وقف البناء دون أصل البقعة وقد ذكرنا الكلام فيه فيما تقدم، مقبرة كانت للمشركين أرادوا أن يجعلوها مقبرة للمسلمين فهذا على وجهين:
إن كانت آثارهم فقد اندرست فلا بأس بذلك، وإن بقي آثارهم بأن بقي شيء من عظامهم فإنه ينبش ويقبر ثم يجعل مقبرة للمسلمين، ألا ترى أن موضع مسجد رسول الله عليه السلام كان مقبرة للمشركين فتبقى والحد مسجدًا. رجل له دار أراد أن يجعلها رباطًا للمسليمن ويبيعها ويتصدق بثمنها أو يبيعها عبدًا فيعتقه أيُّ ذلك أفضل؟ حكي عن عليّ بن أحمد رحمه الله: إن جعلها رباطًا أفضل؛ لأن منفعة الرباط أدوم. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن جعلها رباطًا وجعل لها وقفًا لعمارتها فجعلها رباطًا أفضل، وإن لم يجعل لعمارتها وقفًا فالأفضل أن يبيعها ويتصدق بثمنها؛ لأنه إذا لم يكن للرباط وقف يخرب ويصير مأمنًا للسراق وفي ذلك ضرر بالمسلمين، فيبيعها ويتصدق بثمنها، ودون ذلك في الفضل أن يشتري بثمنها عبدًا فيعتقه.
الميت بعد ما دفن لا يخرج من غير عذر، ألا ترى أن كثيرًا من الصحابة دفنوا في أرض الحرب ولم يحولوا؛ لأنه لا عذر (في) إخراجه بعذر، والعذر يظهر أن الأرض مغصوبة أو أخذها الشفيع بالشفعة. رباط كبرت دوابه وغلت مؤنتها هل للقيم أن يبيع شيئًا منها وينفق ثمنها في علفها أو مرمة الرباط؟ فهذا على وجهين: إن بلغ سن البعض إلى حد لا يصلح لما ربطت له فله ذلك وما لا فلا، ولكن تمسك في هذا الرباط مقدار ما يحتاج إليها، وربط مازاد على ذلك في أدنى رباط إلى هذا الرباط.
سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن مسجد لم يبق له قوم وخرب ما حوله واستغنى الناس عنه هل يجوز جعله مقبرة؟ قال: لا، وسئل هو أيضًا عن المقبرة في القرى إذا اندرست ولم يبقَ منها أثر الموتى لا العظم ولا غيره هل يجوز زراعتها واستغلالها؟ قال: لا ولهما حكم المقبرة، وسئل هو أيضًا عن رجل وقف أرضًا على المقبرة أو على صوفي خانة بشرائطه هل يصح؟ قال: لا.
في (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: امرأة جعلت قطعة أرض لها مقبرة وأخرجتها من يدها ودفن فيها ابنها وتلك القطعة لا تصلح للمقبرة لغلبة الماء عندها فيصيبها فساد فأرادات بيعها، فإن كانت الأرض بحال لا يرغب الناس في دفن الموتى فيها لقلة الفساد ليس لها البيع؛ لأنها صارت مقبرة، وإن كان يرغب الناس عن دفن الموتى فيها لكثرة الفساد فلها البيع؛ لأنها لم تصر مقبرة فإذا باعتها للمشتري أن يأمرها برفع ابنها عنها؛ لأنها صارت ملكًا للمشتري.
فيه أيضًا: حفر قبرًا في مقبرة وقفًا، فأراد آخر أن يدفن فيها ميتة فإن كان في المكان سعة لا يدفن؛ لأنه يوحش صاحبه الذي حفر، وإن لم يكن فيه سعة يدفن، ونظير هذا من بسطة المصلي في المسجد أو نزل في الرباط فجاء آخر، فإن كان في المكان سعة لا يزاحم الأول، وإن لم يكن فيه سعة يزاحمه، ثم إذا كان في المكان سعة ومع هذا دفن فيه غير الحافر لا يكره، هكذا قال الفقيه أبو الليث قال: لأن الذي حفر لا يدري بأي أرض يموت، في آخر غصب (فتاوى أهل سمرقند): حفر قبرًا فدفن فيه غيره ميته؛ لا ينبش القبر لكن يجب قيمة حفره حتى يحفر آخر فيدفن فيه ولم يزد به؛ لأن الحفر كان في ملك الحافر؛ لأن في هذه الصورة ينبش القبر يصوغ ملك المالك، وإنما أراد به أن الحفر كان في غير ملكه بأن كان في أرض مباح أو في مقبرة يجيء ذكره في آخر كراهية (واقعات الناطفي) فقال: إذا حفر قبرًا في غير ملكه ليدفن فيه ميتًا له، فدفن غيره ميته لا ينبش القبر ولكن ضمن قيمة حفره وكان فيه رعاية الحفر.
وإن دفن الميت في أرض غيره بغير إذن المالك فالمالك بالخيار إن شاء أمر بالإخراج وإن شاء سوى الأرض وزرع فوقها؛ لأن الأرض ملكه ظاهرها وباطنها، فكان له أن يستخلص الظاهر والباطن وله أن يترك الباطن وينتفع بالظاهر، في (فتاوى أبي الليث) مواضع موات على شط جيحون عمرها أقوام واستولوا؛ كان للسلطان أن يأخذ العشر من غلاتها، وهذا الجواب مستقيم على قول محمد؛ لأن ماء الجيحون عنده عشري والمؤنة تدور مع الماء، فلو أباح السلطان من ذلك للرباط شيئًا فأراد المتولي أن يصرف من ذلك إلى مؤذن الرباط فله ذلك وإن كان المؤذن فقيرًا لا يحل صرفه إلى الرباط، فإن صرف العشر للفقراء وإن أرادوا الحيلة في ذلك أن يصرف إلى الفقراء ثم الفقراء يصرفون إلى الرباط، وكذلك من عليه الزكاة إلى بناء المسجد أو القنطرة لا يجوز وإن أرادوا الحيلة فالحيلة أن يتصدق المتولي على الفقراء ثم الفقير يدفعه إلى المتولي يصرف ذلك.
رباط فيه ثمار فإن كان ثمارًا لا قيمة لها نحو الثوب وما شاكل ذلك فلا بأس للنازلين أن يتناولوا منها، وإن كانت ثمار لها قيمة فالاحتراز عن ذلك أحوط لدينه؛ لأنه يحتمل أنه جعل ذلك وقفًا للفقراء دون النازلين فيها، وهذا إذا لم يعلم أنه وقف على الفقراء، أما إذا علم ذلك لا يحل لغير الفقير أن يتناولوا منها. في (فتاوى أبي الليث): رجل دفع إلى خادم دار عمران- وهي دار يسكنها الفقراء- درهمًا وأمره أن يشتري بها خبزًا ولحمًا وينفق على المقيمين فيها، فلم يحتج الخادم ذلك اليوم إلى الخبز واللحم وقد كان اشترى قبل ذلك الخبز واللحم بالنسيئة، فقضى ذلك الذي بيده الدراهم ضمن لأنه خالف أمره.

.الفصل الثالث والعشرون: في المسائل التي تعود إلى الأشجار التي في المقابر وفي أرض الوقف وغير ذلك:

في (فتاوى أبي الليث): مقبرة فيها أشجار فهذه المسألة على وجهين: أحدهما: أن تكون الأشجار نابتة قبل اتخاذ الأرض مقبرة، وأنه على وجهين أيضًا: إن كانت الأرض مملوكة لها مالك فالاشجار بأصلها على ملك رب الأرض يصنع بالأشجار وأصلها ما شاء؛ لأن موضع الأشجار من الأرض لم يصر مقبرة؛ لأنه مشغول بملك صاحب الشجر، وإن كانت الأرض مواتًا لا مالك لها واتخذها أهل القرية مقبرة؛ فالأشجار بأصلها على حالها القديم.
الوجه الثاني: إذا نبتت الأشجار بعد اتخاذ الأرض مقبرة وإنه على وجهين أيضًا: إن علم لها غارس فهي للغارس لأنها ملك، وإن لم يعلم لها غارس فالحكم في ذلك إلى القاضي إن رأى بيعها وصرف ثمنها إلى عمارة المقبرة فله ذلك؛ لأنه إذا لم يعلم لها غارس كانت في حكم الوقف، ألا ترى أن الشجرة إذا نبتت في ملك إنسان ولا يعرف لها غارس كانت الشجرة لصاحب الملك فكذا.
فيه أيضًا: إذا غرس شجرًا في المسجد فاعلم بأن هذا الجنس أربع مسائل:
إحداها هذه، والحكم فيها أن الشجر للمسجد فإنه بمنزلة البناء للمسجد.
المسألة الثانية: إذا غرس شجرًا في أرض موقوفةٍ على الرباط، والحكم فيها: أن الغارس إن ولي تعاهد هذه الأرض الموقوفة على الرباط فالشجرة للوقف؛ لأن هذا من جملة التعاهد فيكون غارسًا للوقف ظاهرًا، وإن لم يلها هذه الأرض فالشجرة له وله رفعها.
المسألة الثالثة: إذا غرس شجرًا في طريق العامة، والحكم فيها: أن الشجرة للغارس؛ لأنه ليس له ولاية جعل للعامة.
المسألة الرابعة: إذا غرس شجرًا على شط نهر العامة أو على شط حوض القرية، فالحكم فيها كالحكم في المسألة الثالثة، فيه أيضًا: رجل جعل أرضه مقبرة وفيها أشجار، فأراد ورثته أن يعطوا الأشجار فلهم ذلك؛ لأن موضع الأشجار لم يصر وقفًا؛ لأنه مشغول، وكذلك لو جعل داره مقبرة فموضع البناء لا يدخل فيه؛ لأنه مشغول في (فتاوى أهل سمرقند): أوقف شجرًا على حوض قرية ثم قطعها بعد ذلك فنبت من عروقها أشجار فهي للغارس؛ لأنها نبتت في ملكه.
في نوع (فتاوى أبي الليث): أشجار على حافتي نهر في الشارع اختصم فيها السارية ورجل يجري هذه النهر مقابل داره ولم يعرف الغارس، فإن كان الموضع الذي ينبت فيه الأشجار ملك السارية فالأشجار لهم لأنها تنبت في ملكهم، وإن لم يكن ذلك الموضع ملك السارية وإنما هو للعامة، والسارية في سبيل الماء؛ إن لم يعلم أن صاحب الدار اشترى الدار بعد غرس الأشجار فالأشجار لصاحب الدار؛ لأن الأشجار في حجره، وإن علم أن صاحب الدار اشترى الدار بعد غرس الأشجار لا يكون له؛ لأنه إنما صارت في حجره بعد ما نبتت.
قال الصدر الشهيد في (واقعاته): يجب أن تكون الأشجار في حجره، رجل وقف شجرة بأصلها، صح سواء كانت الشجرة منتفعة بثمارها أو بأوراقها أو كانت منتفعة بذاتها؛ لأنه وقفها مع الأرض، فبعد ذلك ينظر إن كانت منتفعة بثمارها وأوراقها لا يقطع أصلها إلا إذا فسدت أغصانها، وإن كانت منتفعة بذاتها يقطع أصلها ويتصدق بثمنها؛ لأن طريق الانتفاع بها في هذه الصورة هذا.
إذا وقف شجرة بأصلها على مسجد فيبست أو يبس بعضها فيقطع اليابس ويترك الباقي؛ لأن اليابس لا ينتفع به إلا بالقطع بخلاف غير اليابس. أراض موقوفة على الفقراء استأجرها رجل من المتولي وطرح فيها السرقين وغرس الأشجار، ثم مات المستأجر فالأشجار ميراث للورثة؛ لأنها ملك المورث يؤمرون بقلعها؛ لأن الإجارة قد انفسخت بموت المستأجر، فلو أراد الورثة أن يرجعوا في الوقف بما زاد السرقين في الأراضي ليس لهم ذلك، رجل غرس أشجارًا في الشارع ثم مات الغارس وترك ابنين فجعل أحدهما حصته للمسجد لا يكون للمسجد؛ لأن حصته شائعة في المنقول، رجل ميز أشجارًا له في ضيعة وقال لإمراته في صحته: أما إذا مت فبيعي هذه الأشجار واصرفي ثمنها في كفني وثمن الحر للفقراء، وثمن الدهن لسراج المسجد الذي في كذا، ثم مات وترك امرأته هذه وورثة كبارا فاشترى الورثة الكفن من الميراث وجهزوه، تباع الأشجار ويحط من ثمن الأشجار مقدار الكفن، يعني يدفع من الثمن هذا المقدار وتصرف المرأة الباقي إلى الحر ودهن السراج؛ لأن الزوج أمرها بصرف الثمن في ثلاثة أشياء فيجب قسمته على هذه الأشياء الثلاثة.
رجل وقف ضيعة له على بناته وأولادهن أبدًا ما تناسلوا وآجر ذلك للفقراء ثم غرس الواقف فيها شجرًا، فإن غرس من غلة الوقف فالشجر للواقف، وإن غرس من مال نفسه فإن قال عند الغرس: إنه للوقف فهو للوقف، وإن لم يذكر شيئًا فهو ميراث عنه.
قرية وقفت على أرباب مسلمين في يد متولٍ، باع هذا المتولي ورق أشجار التوت جاز؛ لأن هذا بمنزلة الغلة، ولو أراد المشتري قطع قوائم هذه الأشجار يمتنع، في (مجموع النوازل): سئل نجم الدين عن أشجار في مقبرة هل يجوز صرفها في عمارة المسجد؟ قال: نعم إن لم تكن وقفا على وجه آخر، قيل له: فإن بدا عيب حوائط المقبرة إلى الخراب إنصرف اليها أو إلى المسجد قال: إلى ما وقفت عليه إن عرف وإن لم يكن للمسجد متولي ولا للمقبرة فليس للعامة التصرف فيها بدون إذن القاضي.
وسئل هو أيضًا عن رجل غرس بألة في مسجد فكبرت بعد سنين فأراد المتولي أن يصرف هذه الشجرة إلى عمارة بئر في هذه السكنة والغارس يقول: هي لي فإني ما وقفتها على المسجد قال: الظاهر أن الغارس جعلها للمسجد فلا يجوز صرفها إلى البئر ولا يجوز للغارس صرفها إلى حاجة نفسه. في (فتاوى أهل سمرقند) (مسجد) فيه شجر تفاح يباح للقوم ان يفطروا بهذا التفاح، قال الصدر الشهيد والمختار: أنه لا يباح؛ لأنه صار للمسجد فلا يصرف إلا إلى مصالح المسجد.

.الفصل الرابع والعشرون: في الأوقاف التي يستغنى عنها وما يتصل بها من صرف غلة الأوقاف إلى وجوه أخر:

في (فتاوى أبي الليث): بئر بنيت بالآجر في قرية فخربت القرية وانقرض أهلها وعند هذه القرية قرية أخرى فيها حوض يحتاج إلى الآجر يجوز أن يؤخذ الآجر من تلك البئر وينفق في الحوض فهذا على وجهين:
إما أن يعرف الثاني وفي هذا الوجه لا يجوز ذلك إلا بإذن الثاني. وأما إن لم يعرف الثاني، وفي هذا الوجه ينبغي أن يتصدق بالآجر على فقير ثم الفقير ينفق في الحوض؛ لأنه بمنزلة اللقطة، قال: ولو أراد القاضي أن ينفق من غير هذا الطريق لا بأس به، وهذا التفصيل الذي ذكرناه يأتي على قول محمد، أما على قول أبي يوسف على ما ذكرنا. قيل: هذا في مسألة الحصير الملقى في المسجد أنه لا يعود على ملك متخذه بخراب المسجد بل يحول إلى مسجد آخر لا يتأتى، وينبغي للقاضي أن يصرف الآجر في عمارة الحوض على قوله.
رباط وعلى باب الرباط قنطرة على نهر لا يمكن الإنتفاع بالرباط إلا بمجاورة القنطرة لكبر النهر خرب القنطرة وليس للقنطرة غلة يمكن عمارة القنطرة بها. هل يجوز عمارة القنطرة من غلة الرباط؟ فهذا على وجهين:
إن شرط الواقف في الوقف أن يصرف غلة الرباط إلى الرباط وإلى ما فيه مصلحة الرباط جاز صرف غلة الرباط إلى عمارة القنطرة، وإن لم يشترط ذلك لا يجوز، وهذا إذا كان الرباط بحال لو لم يصرف الغلة إلى عمارة القنطرة لا يخرب الرباط، أما إذا كان بحال لو لم يصرف الغلة إلى عمارة القنطرة بخراب الرباط يستحسن في ذلك؛ لأن الرباط ووقفه حق العامة والقنطرة أيضًا حق العامة، ويجوز التصرف في حق العامة لمنفعة تعود إليهم، ألا ترى إلى ما روي عن محمد في مسجد ضاق عن أهله وعن طريق العامة أنه لا بأس بأن يلحق بالمسجد من الطريق إذا كان لا يضر بأصحاب الطريق؛ لأن كليهما حق عامة المسلمين كذا هنا في (فتاوى أبي الليث).
وفيه أيضًا: قوم جمعوا الدراهم لعمارة قنطرة واشتروا ببعضها الطعام للعمل فاجتمع هناك من لا يعمل، فدعاهم العمال إلى الطعام فهذه المسألة على وجهين: إن حضر هؤلاء لهداية العمال وإرشادهم والبعث على العمل، وفي هذه الوجه وسع للعمال أن يدعوهم ووسع لهؤلاء أن يجيبوهم؛ لأنهم كالعمال، فإن حضروا إلا لما قلنا بل لأجل النظارة، فإن كانوا قليلًا لا يتمكن بأكلهم نقصان فيما جمع للقنطرة فكذلك الجواب أيضًا، وإن كانوا كثيرًا لا يسعهم ذلك، ولو فضل من الحسب ونحوه شيء فهو على وجهين:
إن كان يقدر على أربابها يشاورهم القيم في ذلك، وإن كان لا يقدر على أربابها فللقيم أن يفعل به ما يرى. أوقاف على قنطرة يبس الوادي وصار الماء إلى جهة أخرى من أرض تلك المحلة، واحتيج إلى عمارة قنطرة للوادي الجديد هل يجوز صرف غلة القنطرة الأولى إلى الثانية للعامة وليس هناك قنطرة أخرى للعامة أقرب إلى القنطرة الأولى؟ جاز لما ذكرنا قبل هذا، سئل شمس الأئمة الحلواني عن مسجد وحوض خرب ولا يحتاج إليه لتفرق الناس، هل للقاضي أن يصرف أوقافه إلى مسجد آخر؟ قال: نعم ولو لم يتفرق الناس ولكن استغنى الحوض عن العمارة وهناك مسجد يحتاج إلى العمارة أو على العكس، هل يجوز للقاضي صرف وقف ما استغني للعمارة إلى ما هو محتاج إلى العمارة؟ قال: لا.
رباط استغني عنه وله غلة فإن كان بقربه رباط صرفت الغلة إلى ذلك، وإن لم يكن بقربه رباط يرجع إلى ورثة الذين بنوا الرباط، هكذا ذكر المسألة في (فتاوى أبي الليث) قال الصدر الشهيد رحمه الله في (واقعاته): وفيه نظر فيتأمل عند الفتوى، وقيل: إن عرف من بناه فالتصرف له وإن لم يعرف فالتصرف للقاضي.
في (فتاوي النسفي): سئل شيخ الإسلام عن أهل قرية تفرقوا وتداعى مسجد القرية إلى الخراب وبعض المتغلبة يستولون على حسب المسجد وينقلون إلى ديارهم هل لواحد من أهل القرية ان يبيع الحسب بأمر القاضي ويمسك الثمن ليصرفه إلى بعض المساجد وإلى أهل المسجد؟ قال: نعم، وحكي أنه وقع مثل هذه الواقعة في زمن السيد الإمام الأجل في رباط في بعض طرق سعد، ولا ينتفع المارّ به وله أوقاف عامرة فسئل هل يجوز صرفها إلى رباط آخر ينتفع الناس به؟ قال: نعم؛ لأن الواقف غرضه من ذلك انتفاع المارة ويحصل ذلك من الثاني.
رجل (وقف) دابة أو سيفًا في رباط وقفًا على الرباط فخرب الرباط واستغنى الناس عنها، يربط في رباط آخر هو أقرب الرباط إليه، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وإذا اجتمع في يد القيم غلة وقف الفقراء وظهر له وجه من وجوه البر يخاف فواته إن لم يبادر إليه.... الوقف فإنه ينظر إن لم يكن في تأخير مرمة الوقف إلى الغلة الثانية ضرر بيّن بالوقف للخراب فإنه يصرف الغلة إلى وجه ذلك البر ويؤخر العمارة إلى الغلة الثانية؛ لأن الجمع بينهما ممكن، وإن كان في تأخير العمارة ضرر بيّن فإنه يصرف العمارة إلى مرمة الوقف وما فضل صرف إلى ذلك البر؛ لأن عمارة الوقف أهم من إدراك ذلك البر؛ لأن الوقف إذا خرب انقطعت....، وإذا عمر يصير ممكنًا إدراك الآخر إن فات هذا البر، وإن المراد من وجه البر هنا ما يكون فيه تصدق بالغلة على نوع من الفقراء نحو فكّ أسارى المسلمين أو إعانة منقطع من الغزاة أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا الوقف على الفقراء والأسراء والمنقطعة فقراء، فكانوا من أهل التصدق عليهم، فأما عمارة مسجد أو رباط ونحو ذلك مما ليس بأهل للتملك فلا يجوز صرف هذه الغلة إليه؛ لأن التصدق عبارة عن التملك فلا يتصدق إلا فيمن هو أهل للملك والله أعلم.
في (فتاوى أهل سمرقند): علو وقف انهدم وليس له من الغلة ما يمكن عمارة العلو؛ بطل الوقف ورجع حق البناء إلى الواقف إن كان حيًا وإلى ورثته إن كان ميتًا، هكذا ذكر هنا في هذه المسألة، وجنس هذه المسألة قال الصدر الشهيد رحمه الله: فيه نظر؛ لأن الوقف بعدما صح بشرائطه لا يبطل إلا في مواضع مخصوصة.
ومن هذا الجنس قال: حوض في محلة خرب وصار بحيث لا يمكن عمارته واستغنى أهل المحلة عنه، إن كان يعرف واقفه يكون له إن كان حيًا ولورثته إن كان ميتًا، وإن كان لا يعرف واقفه كاللقطة في أيديهم يتصدقون على فقير ثم يبيعه الفقير فينتفع بالثمن، ومن هذا الجنس قال: حانوت هو وقف صحيح احترق السوق والحانوت وصار بحال لا ينتفع به ولا يستأجر بشيء إليه يخرج من الوقفية، ومن هذا الجنس قال: الرباط إذا احترق يبطل الوقف ويصير ميراثًا. ومن هذا الجنس قال: منزل موقوف وقفًا صحيحًا على مقبرة معلومة فخرب هذا المنزل وصار بحال لا ينتفع به فجاء رجل وعمره وبنى فيه بناء من ماله بغير إذن أحد، فالأصل لورثة الواقف، والبناء لورثة الثاني.
ومن هذا الجنس قال: وقف صحيح على أقوام مسلمين فخرب ولا ينتفع (به) وهو بعيد من القرية لا يرغب أحد في عمارته بطل الوقف ويجوز بيعه، فهذه الجملة من هذا الجنس، في (فتاوى أبي الليث):رجل جمع مالًا من الناس لبقعة في بناء المسجد فأنفق في حاجته من تلك الدراهم ثم رد بدلها في نفقة المسجد لا يسعه أن يفعل ذلك، فإن فعل فإن عرف صاحب ذلك المال رد عليه أو سأله تجديد الإذن؛ لأنه دخل في ضمانه فلا يبرأ عنه إلا بالرد إلى المالك وإلى بانيه ولم يوجد، وإن لم يعرف صاحب المال استأمر الحاكم فيما يستعمله، وإن تعذر عليه ذلك رجوت له في الاستحسان أن ينفق مثل ذلك من ماله على المسجد فيجوز ذلك، هذا واستئمار الحاكم يجب أن يكون في دفع الوبال، أما الضمان فواجب، فإنه ذكر في وكالة (المبسوط) أن الوكيل بقضاء الدين إذا صرف مال الموكل إلى قضاء دين نفسه ثم قضى دين الموكل من ماله ضمن وكان متبرعًا في قضاء دينه، ولهذا المعنى فسدت أمور الساعين والسماسرة، ويبنى على هذا مسائل بها أهل العلم والصلحاء، منها:
العالم إذا سأل الفقير أشياءً واختلط بعضها ببعض يصير ضامنًا بجميع ذلك، وإذا أدى صار مؤديًا من مال نفسه ويصير ضامنًا لهم، ولا يخرجهم من غير ركوبهم، فيجب أن يستأذن الفقير ليأذن له بالقبض فيصير خالطًا ماله بماله ومنها مال مرد إذا قام وسأل الفقير بغير أمره فهو أمين، فإن خلط مال البعض بمال البعض يصير مؤديًا من مال نفسه ويصير ضامنًا لهم، ولا يخربهم عن ركوبهم فيجب أن يأمر الفقير أولًا بذلك؛ لأنه إذا أمره صار وكيلًا بقبضه وبالتصرف له فيصير خالطًا ماله بماله.
في (فتاوي الفضلي) مال موقوف على سبيل الخير والفقراء ومرعياتهم ومال موقوف على المسجد الجامع، فاجتمعت من عليها ثم بانت للإسلام بائنة مثل حادثة اليوم، واحتيج إلى النفقة في تلك الحادثة، أما المال الموقوف على المسجد الجامع إن لم يكن للمسجد حاجة للحال فللقاضي أن يصرف في ذلك على وجه القرض فيكون دينًا في مال الفيء، وأما المال الموقوف على الفقراء فإن صرف إلى المحتاجين أو إلى الأغنياء من أبناء السبيل جاز لا على وجه القرض؛ لأنه صرف إلى المصرف، بخلاف المال الموقوف على المسجد الجامع؛ لأنه صرف إلى غير المصرف فلا يجوز إلا بطريق القرض.
وإن صرف إلى الأغنياء من غير أبناء السبيل فإن رأى قاضٍ من قضاة المسملين جواز ذلك جاز الصرف لا بطريق القرض لأن فيه اختلاف العلماء. نحن وإن قلنا: إنه لا يجوز ولكن لما رأى قاض من قضاة المسلمين جواز ذلك وصرف كان قضاء في موضع الخلاف، وإن لم يره قاض من قضاة المسلمين جواز ذلك يصرف على وجه القرض فيصير دينًا في مال الفيء والله أعلم.

.الفصل الخامس والعشرون: في وقف الكفار:

في (فتاوى أبي الليث): نصراني وقف ضيعة له على أولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا وجعل آخره للفقراء كما هو الرسم، فأسلم بعض أولاده يعطى له؛ لأن الوقف حصل باسم الأولاد، وهذا الاسم باقي بعد الإسلام، فيه أيضًا: نصراني وقف ضيعة له على أولاده وأولاد أولاده، فإذا انقرضوا فعلى فقراء المسلمين، فهذا الوقف جائز لأن هذا مما يتقرب به أهل الذمة، فالوقف على ما هو قربة عندنا وعندهم جائز، وكذلك إذا قال: فإذا انقرضوا فعلى الفقراء جاز، فإذا انقرضوا صرف إلى المسلمين؛ لأن حق فقراء المسلمين أقوى بشرف الإسلام فيتعينون عند الاطلاق، ولو قال: إذا انقرضوا فعلى فقراء النصارى لا يجوز هذا الوقف؛ لأنه وقف على فقراء النصارى والوقف على فقراء النصارى لا يجوز، أما عند أبي حنيفة؛ فلأنه لا يرى الوقف إلا بطريق الوصية أو مضافًا إلى ما بعد الموت ولم يوجد ذلك هنا، وأما على قولهما؛ فلأن هذا معصية في حقنا.
وذكر الخصاف في (وقفه): إذا وقف الرجل من أهل الذمة نصرانيًا كان أو مجوسيًا أرضًا له أو دارًا له على ولده وولد ولده أبدًا ما تناسلوا، ومن بعدهم على المساكين فهو جائز، فإن لم يسم الواقف المساكين؛ فأي المساكين فرق ذلك منهم؛ مساكين المسلمين أو مساكين أهل الذمة جاز، وإن قال: على مساكين أهل الذمة ففرق القيم في مساكين اليهود أو النصارى أو المجوس جاز ذلك، وإن قال: على فقراء النصارى فهو جائز ويفرق على فقراء النصارى، ولو فرق القيم في فقراء المجوس أو اليهود فهو مخالف ضامن، وإن كان الواقف نصرانيًا وقال: تجعل غلة هذا الوقف في فقراء اليهود والمجوس فهو جائز وهو على ما قال، فما ذكره الخصاف في هذه المسائل بخلاف المذكور في (الفتاوى).
وقد ذكر في كتاب (الوصايا والزيادات): أن وصايا أهل الذمة أنواع: نوع هو معصية عندهم قربه عندنا، وأجاب أن الوصية باطلة إلا إذا حصلت لأقوام بأعيانهم ويكون ذلك تمليكًا منهم، ونوع هو قربة عندهم معصية عندنا، وهذا الوصية صحيحة عند أبي حنيفة على كل حال، وعندهما باطلة إلا إذا حصلت الأقوام بأعيانهم، والوقف نظير في الوصية، فما ذكره الخصاف في الوقف يكون قول أبي حنيفة على قياس مسألة الوصية، وما ذكر في الفتاوي يكون قولهما على قياس مسألة الوصية، ولو جعل الذمي داره بيعة أو كنيسة أو بيت نار في صحته ثم مات يصير ميراثًا لورثته، هكذا ذكر الخصاف في (وقفه)، وهكذا ذكر محمد في (الزيادات) وهذا لا يشكل على قولهما؛ لأنه معصية عندنا، ولهذا لو أوصى به لا يصح فكذا إذا فعل في حياته، وإنما يشكل على أبي حنيفة لا يعامل معهم بناء على اعتقادهم، ألا ترى لو أوصى به صح عند أبي حنيفة رحمه الله.
والفرق: أن البناء ليس بمزيل للملك لو زال الملك، وإنما يزول إذا تعين فيه جهة القربة مطلقًا وهذا الفعل ليس بقربة مطلقًا، خرج على هذا المسلم إذا اتخذ داره مسجدًا؛ لأن ذلك قربة مطلقًا، فأما الوصية فمزيلة للملك فلا يشترط جهة القربة فيها مطلقًا للإزالة، بل يكتفي فيها بجهة القربة بناء على زعمهم واعتقادهم.
قال الخصاف: إذا جعل الذمي داره مسجدًا للمسلمين وبناه كما يبتني المسلم وأذن للمسلمين بالصلاة فيه وصلوا فيه ثم مات؛ يصير ميراثًا لورثته، وهذا على قول الكل؛ لأنه معصية عندهم ألا ترى أنه لو أوصى أن يبني داره مسجدًا بعد موته كانت الوصية باطلة، ولو أوصى أن يبني داره مسجدًا لقوم بأعيانهم قال الخصاف: أستحسن أن هذا لا هذه وصية لقوم بأعيانهم. قال: ولو وقف الذمي داره على بيعة أو كنيسة أو بيت نار فهو باطل، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأنه لم توجد الوصية أو الإضافة إلى ما بعد الموت، ولو قال: يجري غلتها على بيعة كذا فإن خربت هذه البيعة كانت الغلة للفقراء وللمساكين، ولا ينفق على البيعة شيء، قال: فإن وقف ذمي أرضا وقفًا صحيحًا وأن يفرق غلتها في أبواب البر فأبواب البر عندهم عمارة البيع والكنائس والصدقة على المساكين، وإنما يفرق غلة هذه الصدقة على الفقراء والمساكين، وأبطل ما سوى ذلك.
وإن قال: تفرق عليها في جيران مسلمين وجيران نصارى ويهود ومجوس، وجعل آخره للفقراء فالوقف جائز ويفرق الوقف في جيرانه المسلمين والنصارى وغيرهم، وإن قال الذمي: يجعل غلتها في أكفان الموتى أو في حفر القبور فهو جائز ويصرف الغلة في أكفان موتاهم وحفر قبور فقرائهم. قال: وسبيل الذمي في الوقف على قرابته وأهل بيته كسبيل المسلمين، وإن قال الذمي: أجعل غلة هذه الصدقة في سراج بيت المقدس وثمنها فهو جائز؛ لأنه قربة عندنا وعندهم.
وإذا وقف نصراني وقفًا على ولده وولد ولده أبدًا ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، وشرط أن كل من أسلم من ولده أو ولد ولده أبدًا ما تناسلوا فهو خارج عن هذا الوقف فهو جائز وهو على ما شرط والله أعلم.

.نوع منه:

إذا ارتد المسلم ثم وقف وقفًا في حال ردته، فإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم القاضي بلحاقه يبطل وقفه وتكون الأرض ميراثًا. والمحفوظ عن أبي يوسف فيما إذا اشترى شيئًا أو باع أو آجر أو عامل في ماله بشيء أنه جائز، ولم يرو عنه فيما يتقرب (به) إلى الله تعالى، وعلى قول محمد: يجوز منه ما يجوز من القوم الذين انتقل إليهم، وأما إذا وقف وقفًا صحيحًا وجعل أجرته للمساكين ثم ارتد الواقف بعد ذلك فقتل على ردته، أو مات بطل الوقف ويصير ميراثًا لورثته من قبل أن عمله قد حبط، فإن رجع إلى الإسلام؛ فإن وقف بعد ما رجع جاز، وإن لم يفعل لم يجز ذلك.:

.نوع منه:

ذمي في يديه أرض أقر في صحته أن هذه الأرض وقفها رجل مسلم وكان يملكها وقفًا صحيحًا على أبواب البر وبناء المسجد أو ما أشبهه ذلك مما يتقرب به المسلمون إلى الله تعالى فإقراره جائز، وكذلك إن أقرَّ به في مرضه وهذه الأرض يخرج من الثلث فإقراره جائز، وإن كان الذمي أقر بأن هذا المسلم وقف هذه الأرض في الوجوه التي لا يتقرب بها المسلمون إلى الله تعالى نحو الوقف على البيع والكنائس لم يصح إقراره وتخرج الأرض من يد الذمي وتجعل لبيت مال المسلمين، وإن كانت هذه الأرض لا يخرج من ثلث ماله فمقدار الثلث يجوز إقراره فيه فيما يتقرب به المسلمون إلى الله تعالى لا يجوز ويكون لبيت المال.
وإن أقر هذا الذمي أن ذميًا كان يملكها جاز إقراره فيما يجوز أوقاف أهل الذمة، وبطل إقراره فيما لا يجوز أوقافهم وتخرج الأرض من يده ويجعل لبيت مال المسلمين؛ لأنه لم يسم مالكها.

.الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات:

إذا اشترى أرضًا شراءً فاسدًا ووقفها المشتري على الفقراء والمساكين بعدما قبضها فهو جائز على ما وقفها عليه، وإن جاء البائع وخاصم المشتري فقيمتها يوم قبضها ولا يرد الوقف، ولو وقفها قبل أن يقبضها لا يجوز، قال: ألا ترى أنه لو باعها بعد القبض يجوز، أشار إلى أن البيع الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض ويفيده بعد القبض، فقبل القبض؛ الوقف لم يصادف ملكه وبعد القبض صادف ملكه، ثم إذا وقفها بعد القبض وخاصم البائع المشتري في ذلك ذكر أن المشتري يضمن قيمتها للبائع يوم القبض؛ لأنه أتلفها بالوقف، ألا ترى أن المشتري لو باعها أو وهبها ضمن قيمتها للبائع فكذا إذا وقفها.
ولا ينقض الوقف كما لا ينقص البيع إذا باعها المشتري من رجل؛ لأنه بتسليط البائع، ولو اشترى أرضًا شراءً فاسدًا فقبضها واتخذها مسجدًا وصلى الناس فيه؛ ذكر هلال في وقفه أنه مسجد وعلى المشتري قيمتها ولا يرد إلى البائع، قال هلال: هذا قول أصحابنا في المسجد والوقف على قياسه، وذكر في (كتاب الشفعة): إذا اشترى أرضًا شراءً فاسدًا واتخذها مسجدًا وبنى فيها بناء أنه يضمن قيمتها عند أبي حنيفة ويصير مستهلكًا بالبناء، وعندهما: ينقض البناء وترد الأرض على البائع، فاشتراط البناء على رواية كتاب الشفعة دليل على أنه إذا لم يبنَ لا يصير مسجدًا بمجرد اتخاذه مسجدًا بلا خلاف بدون البناء.
قال الحاكم الشهيد: رواية محمد في (كتاب الشفعة) أصح من رواية هلال، ووجه ذلك: أن المسجد ما يكون لله تعالى خالصًا وينقطع عنه حق العباد، وهاهنا حق العبد وهو البائع باق قبل البناء فلا يصير مسجدًا، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ولقائل أن يقول في الوقف روايتان أيضًا أنه هل يصير وقفًا قبل البناء كما في المسجد؟ ولقائل أن يقول: يصير وقفًا قبل البناء على الروايتين ويفرق هذا القائل بين المسجد وبين الوقف على رواية (كتاب الشفعة) ووجهه: أن الوقف إيجاب حق العباد فصار نظير المبيع والهبة، ثم قيام حق البائع لا يمنع نفاذ البيع والهبة حتى إن المشتري (اشترى) شراءً فاسدًا إذا وهب أو باع يجوز ولا ينقض بعد ذلك، فكذا بخلاف المسجد؛ لأن المسجد ما يكون لله تعالى خالصًا وقيام حق البائع الخلوص لله تعالى.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ولقائل أن يفرق بين الوقف على الفقراء وبين الوقف على أقوام بأعيانهم ويقول: إذا وقف على الفقراء كان في صيرورته وقفًا قبل البناء باتفاق الروايات؛ لأن الوقف على الفقراء يطلب منه وجه الله تعالى لا إيجاب بالحق للعباد فأشبه المسجد، بخلاف الوقف على قوم بأعيانهم؛ لأنه إيجاب الحق للمعين فصار نظير البيع والهبة، ولو اشترى أرضًا شراء صحيحًا وقبضها ووقفها على الفقراء ثم وجد بها عيبًا لا يردها ولكن يرجع بنقصان العيب، بخلاف ما إذا اشترى أرضًا واتخذها مسجدًا ثم وجد بها عيبًا فإنه لا يرجع بنقصان العيب، وجعل المسجد نظير البيع والوقف نظير العتق، وإذا رجع بنقصان العيب كان النقصان له يصنع به ما شاء؛ لأنه ليس ببدل عن الوقف؛ لأن الفائت بالعيب لم يدخل تحت الوقف، فسلم المشتري من آخر أرضًا بعبد وتقابضا ووقف الأرض ثم استحق العبد فالوقف جائز وعلى مشتري الأرض قيمة الأرض يوم قبضها، وإنما جاز الوقف؛ لأن الأرض بدل المستحق، وبدل المستحق مملوك ملكًا فاسدًا فيصح وقفه لما مر، وبمثله لو وجد العبد حر أبطل الوقف؛ لأن بدل الحر ليس بمملوك فلا يصح وقفه.
وإذا اشترى أرضًا من رجل ووقفها على المساكين بعد ما قبضها ثم استحقها رجل وأجاز البيع فالبيع جائز والوقف باطل. قيل: هذا على قول من يقول: بأن المشتري من الغاصب إذا أعتق ثم أجاز المالك البيع أن العتق لا ينفذ، وهو قول محمد وزفر وهلال، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: ينبغي أن ينفذ الوقف كما ينفذ العتق قبل أيضًا، ويجوز أن يفرق بين العتق والوقف فيقال: العتق من حقوق الملك وأحكامه، بدليل أنه يؤكد الملك ويقرره حتى جعل قبضا، والقبض يؤكد الملك فجاز أن يتوقف بتوقفه وينفذ بنفوذه بخلاف الوقف.
قال: ولو أن المستحق ضمن الغاصب وهو البائع القيمة نفذ الوقف كما ينفذ العتق بلا خلاف؛ لأنه ملك بالضمان من وقت الغصب السابق فينفذ بيعه؛ لأنه باع ملكه، وينفذ وقف المشتري كما ينفذ عتقه، قيل: غاصب الدور والعقار لا يضمن عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر، فكيف يستقيم هذا التفريع على قولهما؟، وقيل: إن ضمن المشتري القيمة أينقص الوقف كما ينقص العتق لأن الملك حصل له بالضمان، والوقف كان قبل ذلك بهذا الطريق لم ينفذ العتق، وذكر الخصاف في (وقفه): إذا وقف بيتًا من دار فإن وقفه بطريقه جاز الوقف، وإن لم يقفه بطريقه لم يجز الوقف؛ لأنا إن آجرنا الوقف ماذا يصنع به إذا كان لا يمكن أن يكري ولا يسكن؛ لأنه لا طريق له، وإذا شرط في وقفه أنه ليس لوالي هذه الصدقة أن يؤاجر هذا الوقف لأشياء منه، وإن أجرها واليها أو واحد أن تصير ولايتها إليه فالإجارة باطلة وهو خارج عن ولاية هذه الصدقة.
قال الخصاف: هو على ما شرط من ذلك، وكذلك لو شرط أن لا يدفع بعامله وإن فعل ذلك أخذ من ولاء هذه الصدقة فهو خارج عن ولاية هذه الصدقة لفلان فهو جائز على ما شرط الواقف، وكذلك لو شرط أن من نازع فلانًا وطالبه بحصة من غلة هذه الصدقة فهو خارج عن هذه الصدقة فهذا على ما شرط الواقف. في (فتاوى أبي الليث): قيم وقف جمع الغلة وقسمها على أربابها وحرم واحدًا منهم وصرف نصيبه إلى حاجة نفسه، فلما خرجت الغلة الثانية أراد المحروم أن يأخذ من الغلة الثانية نصيبه في السنة الأولى فهذا على وجهين:
إن اختار المحروم تضمين القيم ليس له أن يأخذ من الغلة الثانية ذلك؛ لأنه لما اختار تضمين القيم سلم للشركاء ما أخذوا من جهة القيم ولم يتبين أنهم أخذوا من نصيب هذا المحروم شيئًا، وإن اختار إتباع الشركاء والشركة فيما أخذوا كان له أن يأخذ ذلك من نصيب الشركاء من الغلة الثانية؛ لأنه لما اختار إتباع الشركاء تبين أنهم أخذوا نصيبه فله أن يأخذ من أنصابهم مثل ذلك؛ لأنه جنس حقه، فماذا أخذ رجعوا جميعًا على القيم بما استهلك القيم من حصته المحروم في السنة الأولى؛ لأنه بقي ذلك حقًا للجميع، وفيه أيضًا: رجل أوصى أن يوقف من ماله كذا كذا درهمًا لدين يظهر عليه، فالوصية باطلة إن لم يؤقت؛ لأنه لم يؤمن بشيء للحال، وكل مال خلا عن الوصية والدين فهو مال الوارث، فإن قال إن رأى الوصي ذلك الآن توقف ذلك من ثلث ماله؛ لأنه لما قال: إن رأى الوصي ذلك وقفًا فكأنه قال: يعطى الوصي ذلك القدر من شاء، ولو تصح على هذا يصح.
رجل في يديه أرض وماء للفقراء ففضل الماء في النهر عن الأرض، لا يعطي أحدًا بل يرسله في النهر ليصل إلى الفقراء أو إلى كل من يصل؛ لأن القيم أمر بصرف الماء إلى أرض الفقراء لا غير، فإذا استثنى الأرض أرسل الماء.
مريض قال: إني كنت متولي حانوت وقف على الفقراء وكنت استهلكت عليه، أو قال: لم أؤد زكاته فأدوا ذلك من مالي بعد موتي، فإن صدقه الورثة في ذلك يعطى الوقف من جميع المال والزكاة من الثلث؛ لأن في الوقف يؤخذ ذلك من تركته من غير إقراره، فلم يكن الأخذ مضافًا إلى إقراره، وفي الزكاة لا يؤخذ من تركته، وإن كذبه الورثة يعطى الوقف والزكاة من الثلث، وللوصي أن يحلف الورثة على العلم، يريد بالوصي قيم الوقف بالله يعلمون أن من أقرّ به حق؛ لأنه يدعي عليهم معنىً لو أقروا به يلزمهم فإذا أنكروا يستحلفون، فإن حلفوا جعل ذلك كله من الثلث كما قبل الحلف، وإن نكلوا جعل الزكاة من الثلث والوقف من الجميع كما لو أقر به الورثة ابتداءً.
قيم الوقف أدخل جذعًا في دار الوقف ليرجع في غلتها فله ذلك، فإن أراد الاحتياط ينبغي أن يبيع الجذع من آخر ثم يشتري منه الرجل الوقف ثم يدخلها في دار الوقف، رجل وقف ضيعة له على الفقراء في صحته وأخرجه من يده ثم قال لوصيه عند الموت: أعطِ من غلة تلك الضيعة كذا لفلان وقد كان قال لوصيه: افعل ما رأيت من الصواب، فجعل لأولئك باطل؛ لأنه صار حقًا للفقراء فلا يملك تغيير حقهم إلا إذا شرط في الوقف أن يصرف عليها إلى من شاء، رجل وقف ضيعة له على امرأته وأولاده فماتت المرأة لم يكن نصيبها لابنها خاصة إذا لم يكن في الوقف شرط من مات منهم رد إلى أولاده، بل يكون على جميع الورثة.
مريض قال: أخرجوا نصيبي من مالي يخرج من الثلث من ماله لأن ذلك نصيبه، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، حانوت وقف ماله إلى حانوت آخر، ومال الثاني إلى الثالث وتعطلت الحوانيت وأبى قيم الوقف العمارة، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون حانوت الوقف غلة يمكن عمارتها منها، والحكم فيه لصاحبي الحانوت أن يأخذ القيم برد ما مال عنه إلى حد الوقف؛ لأنهما تضررا بذلك وإنه هو المتعين لدفع هذا الضرر.
الوجه الثاني: أن لا يكون لحانوت الوقف غلة يمكن عمارتها منها وفي هذا الوجه: يرفعان الأمر إلى القاضي ليأمر القيم بالاستدانة على الوقف لإصلاحه؛ لأن الأمر بالاستدانة هنا يعين لدفع الضرر، والقاضي هو المتعين لدفع الضرر.
حائط بين دارين أحدهما وقف انهدم ذلك الحائط فبناه صاحب الدار الوقف كان للقيم أن يأخذه ببعضه؛ لأنه يصرف في الدار الموقوفة، فلو أراد القيم أن يعطي قيمة بنائه ليكون المبني للوقف ليس للقيم أن يجبره على ذلك، وقد مر جنس هذا فيما تقدم وسيأتي بعد هذا إن شاء الله.
وإن أراد أن يعطيه قيمة البناء برضاه لم يجز أيضًا؛ لأنه لو أجاز لما ضاع ما وراء هذا الحائط من دار الوقف فيكون المتعين هو النقص، رجل وقف أرضًا على حفدته من كان منهم فقيرًا وله حفده عنده فرس يساوي مئتي درهم فإن أمسك الفرس للجهاد أو للركوب لما أن به زمانة يعطى من الوقف؛ لأنه فقير، وإن أمسكه مسرفًا لا يعطى إذا لم يكن عليه دين ولا مهر؛ لأنه عفي.
رجل عليه ديون وله ضيعة تساوي عشرة آلاف درهم وشرط صرف غلاتها إلى نفسه قصدًا منه إلى المماطلة وشهدت الشهود على إفلاسه جاز الوقف وجازت الشهادة، أما جواز الوقف فلمصادفته ملكه، وجواز الوقف مع هذا الشرط قول أبي يوسف على ما مر قبل هذا.
أما جواز الشهادة فلأنها صدق؛ لأن الرقبة خرجت عن ملكه، فإن فضل من قوته شيء من هذه الغلات فللغرماء أن يأخذوا منه؛ لأن الغلات بقيت على ملكه.
القاضي إذا أطلق بيع وقف غير مسجد هل يكون ذلك منه حكمًا ببطلان الوقف؟ ينظر إن أطلق لوارث الواقف يكون حكمًا ويجوز البيع، وإن أطلق لغير وارث الواقف لا يكون حكمًا ولا يجوز البيع، وهذا لأن الوقف لو بطل يعود إلى ملك وارث الواقف، وبيع مال الغير لا يجوز، سئل شمس الإسلام محمود الأوزجندي عمن باع محدودًا قد وقفه وكتب القاضي الشهادة على الصك لا يكون ذلك قضاءً بصحته، وهذا صحيح ظاهر؛ لأن للقضاء شرائط من الشهادة والدعوى وغير ذلك ولم يوجد ذلك هاهنا.
سئل شمس الإسلام الحلواني عن أوقاف المسجد إذا تعطلت وتعذر استغلالها هل للمتولي أن يبيعها ويشتري مكانها أخرى؟ قال: نعم، قيل: إذا لم يتعطل ولكن يوجد بثمنها ما هو خير منها هل له أن يبيعها؟ قال: لا، ومن المشايخ من لم يجوز بيع الوقف تعطل أو لم يتعطل، وكذا لم يجوز الاستبدال بالوقف، وهكذا حكى فتوى شمس الأئمة السرخي رحمه الله في فصل العمارة إذا ضعفت الأراضي الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أرضًا أخرى هي أكثر ريعًا أن له أن يبيع هذه الأرض ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعًا.
وفي (المنتقى): قال هشام: سمعت محمدًا رحمه الله يقول في الوقف: إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره، وليس ذلك إلا للقاضي. في (واقعات الناطفي): رجل جعل فرسًا حبسًا في سبيل الله فليس لأحد أن يؤاجره؛ لأنه أعد لأمر آخر إلا إذا احتيج إلى نفقتها فتؤاجر بقدر ما ينفق عليها.
قال الناطفي رحمه الله: هذه المسألة دليل أن المسجد إذا احتاج إلى النفقة يؤاجر قطعة منه بقدر ما ينفق عليه، فيه أيضًا: متولي الوقف إذا أخذ الغلة ومات ولم يبين ماذا صنع لم يضمن، فالإمارة باب ينقلب مضمونه بالموت عن تجهيل إلا في مسائل معدودة، من جملتها هذه المسألة، وقد ذكر مهامها في الوديعة.
في (فتاوي الفضلي): رجل وقف ضيعة بلفظة الصدقة على ولديه، فإذا انقرضا فعلى أولادهما وأولاد أولادهما أبدًا ما تنسلوا، فإذا انقرض أحد الولدين وخلف ولدًا يصرف نصف الغلة إلى الولد الباقي والنصف إلى الفقراء، فإن مات الولد الثاني من ولدي الواقف صرفت الغلة كلها إلى أولادهما؛ لأن شرط الواقف مراعى في صحته، جعلت داري صدقة موقوفة على المحتاجين من ولدي وليس في ولده إلا محتاج واحد فله النصف من غلة الأرض والنصف الآخر للفقراء عملًا بقوله: صدقة موقوفة، أراد المتولي أن يفرض ما فضل من غلة الوقف.
ذكر في (فتاوى أبي الليث) رجوت أن يكون ذلك واسعًا إذا كان أصلح وأحرز للغلة من إمساك الغلة، ولو أراد أن يصرف فضل الغلة إلى حوائجه على أن يرده إذا احتيج إلى العمارة فليس له ذلك، وينبغي أن يتنزه غاية التنزه، فإن فعل مع ذلك ثم أنفق في العمارة رجوت أن يكون ذلك ميراثًا لا له عما وجب عليه. وفي (فتاوي الفضلي): أنه براء عن الضمان مطلقًا، ولو جاء بمثل ما أنفق في حاجته وخلط بدراهم الوقف صار ضامنًا للباقي؛ لأنه صار مستهلكًا، فلو أراد أن يبرأ عن الضمان يفعل أحد الوجهين: إما أن ينفق ذلك كله في مصلحة المسجد إن كان الوقف على المسجد، وإن كان الوقف على شيء آخر ينفق على ذلك المسجد أو يرفع الأمر إلى القاضي ليأمر القاضي رجلًا بقبض ذلك منه للوقف ثم يدفعه إليه، رجل وقف بعد وفاته وقفًا صحيحًا فله أن يرجع منه؛ لأن الوقف بعد الوفاة وصية وللموصي أن يرجع في وصيته.
سئل شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله عن وقف ثم افتقر وأراد أن يرجع فيه قال: يرفع الأمر إلى القاضي حتى يفسخ القاضي الوقف، رجل وقف ضيعة له نصفها على امرأته ونصفها على ولد له بعينه على أنه إن ماتت المراة صرفت نصيبها إلى أولاده، وأجرة للفقراء ثم ماتت المرأة يكون للابن الموقوف عليه من نصيبها نصيب؛ لأن الواقف شرط نصيبها لأولاده، والابن الموقوف عليه من أولاده، وإذا كان الوقف على أرباب معلومين يحصى عددهم فنصب هؤلاء الأرباب متوليًا بدون استطلاع رأي القاضي. ذكر في (فتاوى أهل سمرقند): أنه يصح إذا كانوا من أهل الصلاح، وقاسوا هذه المسالة على ما إذا نصبه أهل المسجد متوليًا بغير أمر القاضي، وقد ذكرنا تلك المسألة فيما تقدم. وذكرنا اختيار الصدر الشهيد في تلك المسألة أنه لا يصح إلا بأمر القاضي.
ذكر الخصاف في (وقفه): إذا وقف ضيعة مع رقيق يعملونها فقتل بعضهم وأخذ القيم قيمته من قاتله ينبغي أن يشتري بها عبدًا آخر مكان المقتول يعمل في هذه الصدقة، وإن جنى أحدهم جناية ينبغي أن ينظر القيم أيهما أصلح بأمر هذه الصدقة دفع الحال اقتداءً بأرش الجناية، ويعمل بما هو أصلح بأمرها، فإن فداه الوصي بأرش الجناية من غلة هذه الصدقة وكان أرش الجناية أكثر من قيمته فهو متطوع، في الفصل هنا من هو ليس إلى أهل الوقف من الدفع والفداء شيء، فإن فداه أهل الوقف كانوا متطوعين وكانوا خائنين في الصدقة على ما كان عليه، ومسألة الخيانة عند الوقف صارت واقعة في زماننا وأفتى بعض المشايخ أنها في مال الوقف؛ لأنها صارت..... الدفع بفعله فصار كجناية المدبر.
متولي الوقف إذا قام إلى عمارة الوقف وأراد أن يأخذ لكل يوم إخراجيتها ليس له ذلك. لرجل جعل أرضه مقبرة أو خانًا للغلة أو مسكينًا؛ سقط عنها الخراج لأن السبب وجوب الخراج الأرض الباقية الصالحة للزراعة والله أعلم بالصواب.